المصالحةُ والمشروعُ الوطنيّ والحراكُ الشّعبيّ

masri9

لم نذهب إلى القاهرة للمشاركة في الورشة المخصصة للبحث في "دعم وتطوير مسار المصالحة الوطنيّة" يحدونا الأمل بأن تحقق الورشة ما لم تحققه الحوارات والاتفاقات الرسميّة، فالورشة لا تهدف ولا تستطيع إذا أرادت إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة، بل هي شكل من أشكال الحوار تهدف إلى الغوص بشكل علميّ ومسؤول في جذور وأسباب الانقسام ونتائجه، وفي العوامل العربيّة والإقليميّة والدوليّة التي تغذّيه، والعراقيل التي تحول دون إنجاز المصالحة الوطنيّة من أجل التوصل إلى فهم أفضل للواقع؛ من شأنه أن يساعد على تجاوزه نحو الأفضل.

وتجاوز الواقع ليس مهمة الورشات ومراكز الأبحاث والحوار، وإنما مسؤوليّة الأحزاب والقوى والقيادات. فالحوار أسلوب حضاريّ ديمقراطيّ لابد وأن يستمر وينتشر ويسود لأن القطيعة تؤدي إلى الإقصاء والاحتكار والتفرد والاقتتال، أما الحوار فيشكل اعترافاً بالآخر، ويقود إلى تبادل وجهات النظر، وإن لم يؤد إلى توصيات مشتركة فسينتج عنه حتماً أجواءٌ أفضلُ وفهم أفضلُ من كل فرد وطرف للأفراد والأطراف الأخرى.

توقيت الورشة التي ينظّمها مركز مسارات بالتعاون مع مبادرة إدارة الأزمات الفلنديّة وجمهورية مصر العربيّة لم يكن مثاليّاً، لأن الأسابيع الأخيرة شهدت تراشقاً إعلاميّاً بين الناطقين باسم الأطراف المتنازعة حول المسؤول عن عدم تطبيق "إعلان الدوحة"، لأنه كان يفترض تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس في أواخر الشهر الماضي، وأن تشرع لجنة الانتخابات في تسجيل الناخبين في قطاع غزة، وأن تستكمل لجنة الحريات عملها.

إذا أردنا الحديث بصراحة، فإن "حماس" تتحمل هذه المرة المسؤوليّة الأولى عن عدم تطبيق "إعلان الدوحة"، لأن مكتبها السياسي وضع استدراكات "سريّة" عليه تجعل تطبيقه مستحيلاً ومصيره مثل مصير اتفاق مكة، بالرغم من أن العقبة الإسرائيليّة ستواجه على الأرجح الحكومة القادمة ويمكن أن تمنع إجراء الانتخابات.

المطلوب أن نعمل وفقاً للمثل الفرنسي"عندما نصل الجسر نعبر عليه" أي عندما نشكل الحكومة وتتم الاستعدادات لإجراء الانتخابات ونوفر الحريات والأجواء المناسبة نكون مستعدين للخيارات البديلة التي تجعلنا قادرين معاً على التعامل مع أي رفض إسرائيلي لإجراء الانتخابات. أما أن يصبح الرفض الإسرائيلي المتوقع "فيتو"، فهذا يجعلنا رهينة للموقف الإسرائيلي الذي يريد إدامة الانقسام، لأنه أعطى لإسرائيل مزايا هائلة.

إن موقف "حماس" الذي يفصل تماماً ما بين تشكيل الحكومة وبين إجراء الانتخابات يعكس تخوّفاً من استخدام الانتخابات كوسيلة لإخراج "حماس" من النظام السياسي من نفس المدخل الذي دخلت منه، ما يفسر وجود نيّة مبطّنة لديها لعدم الحماس لإجراء الانتخابات إلا بعد توفر ظروف مناسبة وضمانات فلسطينيّة وعربيّة وإسرائيليّة ودوليّة تمكن من احترام نتائجها، وهذا يعني عمليّاً استمرار الانقسام ضمن نفس قواعد اللعبة السياسيّة كما هي قائمة منذ حزيران 2007 من دون تغيير.

إنّ طلب الضمانات شرعي إذا كان من الفلسطينيين والعرب، بحيث يتم تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات مهما تكن نتيجتها، وأن يتم إقرار قانون يقطع الطريق على أي اعتقالات إسرائيلية للنواب المنتخبين، أما طلبها من إسرائيل والولايات المتحدة فهو مطلب تعجيزي، يعكس النيّة لتفضيل استمرار الواقع الحالي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ما سبق لا ينهي المسألة، لأن مسؤوليّة "حماس" عن تجميد المصالحة الآن لا تعفي "فتح" من المسؤوليّة. فعندما ترفض "فتح" توفير بعض الضمانات المطلوبة ويُصِرُّ الرئيس على أن برنامج الحكومة القادمة الانتقاليّة التي مهمتها الرئيسيّة الإشراف على إجراء الانتخابات، هو برنامج الرئيس الذي تعارضه "حماس"، فهذا موقف يدل على استمرار طريق الرهان على المفاوضات الثنائيّة العقيمة التي أدت إلى تعميق الاحتلال؛ في وقت أصبح فيه الفلسطينيون بحاجة ماسة إلى طريق جديد قادر على توحيدهم لإفشال المخططات والبدائل الإسرائيليّة، وحمايّة القضيّة والإنجازات تمهيداً لإنجاز الحقوق الوطنيّة.

قد يقول قائل: إن عدم التزام الحكومة القادمة بشروط اللجنة الرباعيّة سيعرضها للعقوبات الأميركيّة – الإسرائيليّة، وسيحول دون إجراء الانتخابات، وهذا صحيح، ولكنه لا يفترض الرضوخ للشروط والإملاءات الإسرائيليّة والأميركيّة التي أدى الرضوخ لها إلى وصولنا إلى ما نحن فيه، وإنما يتطلب الاستعداد لخوض الصراع معها مستهلين المرحلة القادمة بتجسيد حق الشعب الفلسطينيّ بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في مرحلة تعلو فيها أصوات الشعوب العربيّة المنادية بالحريّة والعدالة والكرامة والديمقراطيّة، وإذا حال الاحتلال دون ذلك يصبح الشعب الفلسطيني بحِلٍ من قيود والتزامات أوسلو المجحفة والمذلة، بحيث يمضي في كفاحه على أساس إعادة الصراع إلى طبيعته الأصليّة بوصفه صراعاً بين الاحتلال والشعب الواقع تحته، بحيث عليه أن ينهي حالة وجود "سلطة بلا سلطة" كما يقول الرئيس، ليس من أجل حلها بالضرورة وإنما من خلال إعادة النظر في شكل ووظائف والتزامات السلطة، بحيث تكون أداة من أدوات المنظمة وتحقيق البرنامج الوطني، ولو أدى ذلك إلى مواجهة يمكن أن تكون من نتائجها انهيار السلطة. فالسلطة يجب ألا تكون عبئاً على القضيّة، وإنما أداة ومرحلة على طريق دحر الاحتلال وتمكين جزء من الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره بإقامة دولة فلسطينيّة على الأراضي المحتلة العام 1967، دون حرمان التجمعات الأخرى من حقوقها في العودة والمساواة والحقوق الفرديّة والمدنيّة والقوميّة.

إذا كانت "حماس" تتحمل المسؤوليّة عن إفشال "إعلان الدوحة" وتجميد عمليّة المصالحة في الأسابيع الأخيرة أكثر من "فتح"، فإن "فتح" تتحمل المسؤوليّة أكثر من "حماس" عن تأجيل تطبيق اتفاق القاهرة من 8 أيار الماضي وحتى 26 كانون الثاني الماضي حتى لا يشوش على الجهود المبذولة، سواء لاستئناف المفاوضات أو لإنجاح التوجه إلى الأمم المتحدة. أي أن الطرفين المتنازعين يتبادلان درجة تحمل المسؤولية عن استمرار الانقسام كونها تُؤثِر الانتظار على أي بديل آخر. فطرف ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية ومصير سورية والمنطقة، وطرف آخر ينتظر نجاح الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات حتى لو أدى ذلك إلى انتظار نتائج الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة القادمة في تشرين الثاني المقبل.

إذا أصرت "فتح" على إنجاز المصالحة وفقاً لشروطها التي في جوهرها تقوم على إلحاق قطاع غزة و"حماس" بالشرعيّة الفلسطينيّة التي تقودها "فتح" في السلطة والمنظمة متسلّحة بالشرعية والدعم العربيّ والدوليّ، وإذا أصرت "حماس" على إنجاز المصالحة وفقاً لشروطها التي في جوهرها تقوم على التمسك بسيطرتها الانفراديّة على قطاع غزة لحين توفر ظروف تسمح لها بقيادة السلطة والمنظمة على أساس أن "فتح" أخذت فرصتها وفشلت، وأنّ الفرصة لها الآن، خاصة في ظل صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وبعد نتائج الانتخابات التشريعيّة الأخيرة، ولذلك يجب تمكينها من الحكم والقيادة؛ فإن القضية الفلسطينية ستنهار وتنتقل من الوضع الحالي السيئ إلى الأسوأ، إن لم نقل إلى الكارثة.

إن مفتاح إنهاء الانقسام هو توفر قناعة وإرادة بالشراكة على أساس ديمقراطي وبرنامج قواسم مشتركة يستند إلى إستراتيجية جديدة بديلة عن إستراتيجية المفاوضات كأسلوب وحيد، والمقاومة المسلحة كأسلوب وحيد، واقتناع "فتح" و"حماس" بأن استمرار الانقسام سيؤدي إلى ضياع كل شيء: الأرض، والقضيّة، والإنسان، وانهيار النظام السياسيّ الذي تقوده "فتح"، وتهديد سيطرة "حماس" على قطاع غزة بالعدوان والحصار والمشاكل الاقتصادية والمعيشية والأمنية، والتضحيّة بالقضيّة الفلسطينيّة على مذبح حاجة الإسلام السياسي لاستقرار إقليمي يمكنه من إقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وتثبيت أركان الحكم في البلدان التي فاز بها، والتقدم على طريق الفوز في بلدان أخرى.

إن جهود وحوارات واتفاقات المصالحة لن تنجح، إلا إذا كانت:

أولاً: جزءاً من المبادرات الرامية إلى إعادة الاعتبار للمشروع الوطني، فالمصالحة ليست مطلوبة من أجل المصالحة، أو من أجل حلول الوفاق بين "فتح" و"حماس" فقط، وإنما من توفيرها شرطاً ضروريّاً لمتابعة الكفاح لتحقيق الأهداف الوطنيّة الفلسطينيّة، فمن دون تعزيز الصمود وإفشال تهويد واستكمال أسرلة القدس، وتدفيع الاحتلال ثمناً لاحتلاله يفوق المكاسب التي تعود عليه، لا يمكن إنهاء الاحتلال وإنجاز الحريّة والعودة والاستقلال.

ثانياً: إذا استندت إلى حراك شعبي، خصوصاً حراكاً شبابيّاً موجة وراء موجة، ويتعاظم حتى يستطيع أن يفرض على الفرقاء المتنازعين الانصياع إلى إرادة الشعب ومصالحه الوطنيّة.

يتزامن نشر هذا المقال عشية الاستعدادات لمسيرة المليون في يوم الأرض، وبُعيد مرور الذكرى الأولى لبدء الحراك الشبابي في 15 آذار، حيث تحرك الشباب تحت شعار "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، وحرّك المياه الراكدة، وعليه أن يستخلص الدروس والعبر، ويعمل على أساس أن الشعب عليه أن يتحرك لفرض إنهاء الانقسام كجزء من المشروع الوطني لإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره في جميع أماكن تواجده، وهذا لا يمكن سوى بتغيير المسار وشق مسار جديد قادر على الانتصار.. فهل نجرؤ على الانتصار؟!