شارون وإسرائيل: حياتان يلفّهما غلاف واحد

بقلم: ناحوم برنياع

إن حياة ارئيل شارون وحياة دولة إسرائيل ملفوفتان في غلاف واحد. فقد كان هو كل ما حلم أن يراه آباء الدولة في جيل الأبناء، من المولودين في البلاد، إذ كان وسيما وقويا وفلاحا يفلح ارضه وجنديا طول الحياة. فقد قدم الآباء الرؤيا وقدم الأبناء التنفيذ. ولم يوجد رجل تنفيذ أكثر تصميما وأعظم قدرة وأحسن تدبيرا من ارئيل شارون.
إن الآثار التي يُخلفها ضخمة. وقد تم الحديث كثيرا في الأسبوع الطويل الذي مر بين إعلان موته القريب وموته بالفعل عن إسهامه المركزي في إنشاء المستوطنات وعن مسؤوليته عن خطة الانفصال، لكن حياته المهنية في خدمة الدولة اشتملت على محطات أخرى ذات أهمية تاريخية.
أنشأ الوحدة 101 وتولى قيادتها. وهذه الوحدة لم تفعل الكثير بالمفاهيم العسكرية الخالصة لكنها أحدثت تحولا بالمفاهيم المعنوية فقد أعادت الى الجيش الإسرائيلي روح القتال. ووحدها مع المظليين وخطط وقاد أكثر عمليات الرد. وقد حدد بن غوريون وديان السياسة وكان شارون مقاول التنفيذ.
بعد عملية سيناء في 1956 قارن ديان القادة الذين عملوا تحت إمرته بالخيول: فثمة حصان كسلان يجب حثه، وحصان وحشي ينطلق قدما مبادرا مهاجما متجاهلا أوامر المسؤولين عنه. وقد فضل ديان شارون، الحصان المنطلق. ولم يحاسبه لأنه دخل المعركة التي لا داعي إليها في ممر "المتلة" الذي كلفه حياة 42 مقاتلا.
وفي حرب الأيام الستة تولى قيادة الفرقة التي احتلت الموقع المصري الحصين في أم كتف في شرق سيناء. وقد حظي التخطيط لهذه المعركة وإدارتها – وكانت تأليفا معقدا بين قوات المدرعات والمظليين والمدفعية – حظيت في حينها بمديح مفرط على ألسنة خبراء عسكريين في العالم. وكانت تلك المعركة هي الإنجاز الأكبر في حياة شارون العسكرية بخلاف إسهامه المختلف فيه في حرب يوم الغفران.
جاء الى تلك المعركة نصف سياسي محاطا بمتملقي الإعلام شديد الإعجاب بنفسه مستهينا بالأوامر العسكرية التي تلقاها من قادته. ولم يعرف كيف يواجه عبادة الشخصية التي نشأت حوله فأصيب بالبلبلة - إن الغرور الذي التصق به وصاحبه مثل ظل في الحياة السياسية التي بدأها، وجره الى صراعات شخصية لا حاجة إليها وجعل من الصعب عليه أن يبني منظومة سياسية داعمة، ساقه حتى النهاية.
كانت حرب لبنان في 1982 هي حرب شارون وقد عبرت عن كثير من صفاته مثل الباعث على المبادرة، والقيام بعمل عظيم يغير الواقع؛ وإدمان مؤامرة سرية، والخداع – لم تكن مؤامرة سرية فقط مع الكتائب المسيحية على فتح وسورية بل كانت كذلك أيضا على رئيس وزراء فهم أو لم يفهم القضية؛ وسلوك متعجرف في مواجهة الحكومة وفي مواجهة أجزاء من الرأي العام وفي مواجهة الإدارة الأميركية.
تعلم شارون دروسه واحتاج ذلك الى عشرين سنة لكنه تعلم، وتعلم جيدا. وقد جاء الى رئاسة الوزراء مستعدا.
وقد غير في خلال ذلك خريطة البلاد. لم يكن شارون والد الاستيطان في المناطق، فقد سبقه الى ذلك آخرون هم إسرائيل غليلي ويغئال ألون وشمعون بيريس. لكنه جعل الرذاذ مطرا. وكان اللقاء بينه وبين ناس "غوش ايمونيم" قاتلا فقد قدّس هذان الطرفان الحيلة والغمز والتآمر؛ وآمن كل طرف بأن يخدمه الطرف الآخر حتى النهاية وأخطآ معا في هذا الشأن.
كان شارون في كل ما يتعلق بالاستيطان من أتباع "مباي": فالمستوطنات التي أنشأها لم تكن ترمي الى تحقيق حلم خلاصي بل الى إقرار حقائق على الأرض، فيمكن إنشاؤها ويمكن إزالتها. حينما اعتقد أن المستوطنة في رفح مجدية لم يحجم عن طرد السكان البدو من هناك؛ وبعد ذلك حينما تغيرت الظروف لم يحجم عن إجلاء اليهود من هناك. وحينما كان يعتقد أن الاستيطان في غزة مجدٍ قال إن "نتساريم" لا تقل أهمية عن تل أبيب؛ وقد أخلاها في الانفصال دون أي شعور بالذنب.
عرضت عليه ذات مرة أن يقرأ السيرة الذاتية التي كتبتها أنيتا شبيرا عن يغئال الون. وقلت سيتبين لك هناك أن كل الحيل التي قمت بها من اجل المستوطنات قام بها قبل ذلك كيبوتس غينوسار. وقد وضع الكتاب بالقرب من سريره ولست متأكدا من أنه قرأه.
لم يؤمن باتفاقات سلام ولم يكن يختلف بذلك عن كثيرين من أبناء جيله الذين نشؤوا على السيف وصعب عليهم أن يقبلوا أي فلسطيني بصفة شريك. وآمن بإجراءات من طرف واحد، فقد كانت تلائم طبيعته الفعالة وهدأت مخاوفه من حل خارجي، حل مفروض. ولولا أنه رقد في 2006 لأمضى عدة اشهر في تفاوض كان فشله معروفا مسبقا مع الفلسطينيين ثم كان سينفذ عملية انسحاب من طرف واحد من أكثر الضفة. وكان ذلك هو تدبيره.
إن من يلخص سنواته رئيسا للوزراء بالانفصال فقط ويصفها بأنها السبب للحب الذي حظي به يكذب على نفسه. فقد بلغ شارون الى رئاسة الوزراء في ذروة الانتفاضة وكان الجمهور يراه منقذا ومخلصا. وقد رأى الجمهور الأمور بصورة صحيحة لأن "السور الواقي" والعمليات العسكرية التي تلتها خلصت المجتمع الإسرائيلي من واحدة من أقسى الفترات في تاريخه. وقد بلغ شارون الى الانفصال محمولا على موجة حب وإجلال وعرف في هذه المرة كيف يواجه ذلك بخلاف ما كان في سبعينيات القرن الماضي فازداد لطفا وغطت روح السخرية على الغرور وحلت محل العداء لكل من يعترض عليه روح المصالحة وحلت الدعابة واللين محل الغضب.
أنا أتذكر إنسانيته بصورة طيبة، وأتذكر الزيارة للمزرعة التي وافق فيها على أن يُطلعني على بقايا القرية العربية التي كانت هناك ذات مرة، والتل الذي سيُدفن فيه غدا؛ وصراعه مع جهاز التحكم من بعيد محاولا أن يشاهد الأخبار في التلفاز في المطبخ؛ وآداب معاملة النساء الشابات التي اتخذها لنفسه؛ وقدرته على الكتابة والقدرة على سرد القصص.
وصفته مرة بأنه واحد من شيوخ الكنيست وفي الغد وكان صباح السبت أمسك بالهاتف فجعل نفسه يتكلم بصوت أجش. قال: "يتكلم ارئيل شارون من نادي شيوخ المجلس الإقليمي. أنا ألعب الدوك الآن مع الأصدقاء".
والدوك لمن لا يعلم هي لعبة بقش ملون وتكون المهمة أن تُسحب واحدة واحدة من كومة دون المس بالقشات الأخرى.
هكذا سأتذكره: لا بالملابس العسكرية ولا بالضماد على رأسه ولا في حرب سماعات في مركز الحزب بل بابتسامة عابثة مراوغة لمن أكل مثلي وأكبر مني في فطوره. اذا كانت توجد جنة عدن فإنني أتمنى أن يكون هناك مع رابين وشامير وديان وبن غوريون وأن يغلب الجميع بلعبة الدوك.