شارون عبر عن استعداد لمصالحة في القدس

بقلم: باراك ربيد

كان أحد الاسئلة المركزية التي سئلت منذ غرق اريئيل شارون في رقاده قبل ثماني سنوات هل كان ينوي رئيس الوزراء السابق أن يتجه الى اجراءات سياسية اخرى مع الفلسطينيين بعد الانفصال عن قطاع غزة. تكشف برقيات لوزارة الخارجية الامريكية ووثائق داخلية لقسم التفاوض من منظمة التحرير الفلسطينية، سُربت في السنوات الاخيرة، عن أن شارون وعد الرئيس الفلسطيني محمود عباس ‘بتنفيذ خطوات اخرى في المستقبل’، بل عبر على مسامع مسؤولين امريكيين كبار عن استعداد لنقل أحياء عربية في القدس الى سيادة فلسطينية.
‘في 26 تشرين الاول 2004 أُجيزت خطة الانفصال بعد جلسة عاصفة في الكنيست. وبعد ذلك بأشهر التقى رئيس الوزراء شارون مع سلسلة طويلة من اعضاء مجلس النواب الامريكي وشيوخ امريكيين وعرض عليهم خطته السياسية. وتُبين سلسلة برقيات أرسلتها سفارة الولايات المتحدة في تل ابيب الى وزارة الخارجية في واشنطن وسُربت الى موقع ‘ويكيليكس′ أن شارون خطط للاجراء السياسي الكبير التالي قبل الانسحاب من غزة بأشهر.
في 30 تشرين الثاني 2004، بعد اجازة خطة الانفصال في الكنيست بشهر، التقى شارون في ديوانه شيخين امريكيين من مجلس الشيوخ. كان الاول هو تشاك هيغل الذي أصبح اليوم وزير الدفاع الامريكي، وكان الثاني جو بايدن الذي هو اليوم نائب الرئيس اوباما. وأكد شارون للاثنين بحسب البرقية الامريكية أنه ملتزم بالسلام مع الفلسطينيين برغم الصراع الداخلي في اسرائيل. وقال لهما شارون: ‘ليس لليسار قوة (سياسية) واليمين يعارض مبادرتي كليا’. وبين أنه على إثر موت عرفات قبل ذلك باسابيع معدودة ‘نشأت فرصة جديدة’ لتنفيذ الانفصال بتنسيق مع السلطة الفلسطينية.
”اذا نفذ الانفصال من غزة بنجاح، فسيمكن تحقيق خريطة الطريق على مراحل’، قال شارون للشيخين. وقصد رئيس الوزراء آنذاك بكلامه خطة رئيس الولايات المتحدة في تلك الايام جورج بوش التي تقول أن تتم مرحلة ثانية بعد المرحلة الاولى التي هي احراز هدوء أمني، تنشأ فيها دولة فلسطينية في حدود مؤقتة استعدادا للتوقيع على تسوية دائمة في المرحلة الثالثة.
في 27 كانون الاول 2004 زار ديوان رئيس الوزراء في القدس السناتور جو ليبرمان. وقال شارون إنه معني بعد الانفصال بالعودة الى تنفيذ خريطة الطريق لكنه أكد أن شرط التقدم السياسي هو محاربة الفلسطينيين للارهاب. ‘لا أتوقع من أبو مازن أن يكون صهيونيا لكن يجب عليه أن يخطو خطوات مضادة للارهاب’، قال للسناتور الامريكي. وبين كلام شارون في ذلك اللقاء كما وثقه السفير الامريكي آنذاك دان كيرتسر، بين بصورة أوضح أنه لم يقصد أن يقف عند الانسحاب من غزة بل أن ينفذ خطوات بعيدة المدى في الضفة الغربية بل في القدس.
‘عرض شارون المواضيع المهمة له (في التسوية الدائمة)’، كتب كيرتسر. ‘لن يعود اللاجئون الفلسطينيون الى دولة اسرائيل، وتبقى الكتل الاستيطانية متصلة باسرائيل بحسب الاتفاق مع الرئيس بوش. ولن تُجري اسرائيل تفاوضا في القدس عاصمتها الأبدية على نحو يفضي الى تقسيم القدس. قال شارون إنه قد يزن نقل بضعة أحياء عربية سُكنت بعد حرب 1967 لكنه أكد أنه لن يُسلم جبل الهيكل وجبل الزيتون ومدينة داود أبدا’. ويمكن أن نُخمن أن كيرتسر قصد أحياء أطراف شرقي القدس التي ليست هي جزءا من الحوض التاريخي مثل شعفاط وأبوديس وبيت حنينا التي كانت قائمة قبل حرب الايام الستة لكنها كبرت كثيرا بعدها.
بعد ذلك باسبوعين، في 10 كانون الثاني 2005، التقى شارون مرة اخرى وفدا من الشيوخ من مجلس الشيوخ برئاسة بايدن. وقال بحسب برقية السفير كيرتسر: ‘اذا قام الفلسطينيون بما يجب عليهم في موضوع الامن فيمكن العودة الى خريطة الطريق. قد يستغرق ذلك بضع سنين لكن التسوية الدائمة قابلة للاحراز. اذا خطا الفلسطينيون الخطوات المطلوبة فانهم يستطيعون احراز دولة في حدود مؤقتة وسنبدأ في موازاة ذلك تفاوضا في التسوية الدائمة’.
لكن في كل مرة حدثت فيها عمليات تفجيرية عاد مستوى غضب شارون الى الارتفاع. ففي 14 كانون الثاني 2005 بعد هجوم مخربين على مستوطنة موراغ وعملية تفجيرية في معبر كارني اتصل كيرتسر برئيس ديوان شارون دوف فايسغلاس للاطلاع على آخر الاخبار. وفي مرحلة ما اختطف شارون السماعة من فايسغلاس وبدأ يخرج ما استكن من حقده على السفير. ‘لست أرى أية محاولة من السلطة الفلسطينية لفعل شيء ما’، قال شارون بحسب البرقية التي ارسلها كيرتس في ذلك اليوم الى وزارة الخارجية في واشنطن. ‘ضقت ذرعا بأن أقول لكم إنني لن أهادن في الامن… لا تقولوا لي إنه يجب علي أن آخذ في الحسبان مشكلات الفلسطينيين، فلاسرائيل مشكلات ايضا وتوجد الآن جنازات في كل يوم تقريبا’.
وتكشف وثائق لقسم التفاوض من م.ت.ف، سُربت في كانون الثاني 2011 الى شبكة ‘الجزيرة’ عن أنه بعد موت ياسر عرفات في تشرين الثاني 2004 وبقدر أكبر بعد فوز عباس في انتخابات الرئاسة في كانون الثاني 2005، سعى شارون الى تنسيق الانسحاب من غزة مع السلطة الفلسطينية. وفي 8 شباط 2005 التقى شارون وعباس في شرم الشيخ. كان مؤتمر القمة حدثا سياسيا مهما كان يرمي الى الاشارة الى نهاية الانتفاضة وفتح صفحة جديدة بين اسرائيل والفلسطينيين. وسُرب محضر اللقاء لكنه لم يحظ بنشر. وتظهر الوثيقة وهي ست صفحات مكتوبة باللغة العربية أن اللقاء تم في جو ايجابي بل احتفالي حينما كان الطرفان يضاحك بعضهما بعضا.
أبو مازن: ‘ما زلت أنتظر دعوة الى المزرعة. هل كبرت الشياه؟’.
أبو العلاء: ‘كنا ذات مرة نستطيع أن نأتي الى المزرعة لزيارة رئيس الوزراء في خمس دقائق لكنها أصبحت تستغرق ساعة منذ انشاء الجدار’.
شارون: ‘ألا تخشيان أن يطلق أحد ما النار عليكما؟’.
أبو مازن: ‘لسنا خائفين ولا قلقين. ان شاء الله سيعود الوضع ليصبح طبيعيا’.
وأكد الرئيس الفلسطيني لشارون أنه يلتزم بالسيطرة على الوضع الامني، وأن يكافح الأنفاق في قطاع غزة وأن يوقف التحريض على اسرائيل في وسائل الاعلام. وطلب الى شارون أن يفرج عن السجناء الفلسطينيين المسجونين في اسرائيل قبل اتفاقات اوسلو وهم اولئك السجناء الذين أفرج عنهم بنيامين نتنياهو بعد ذلك بتسع سنوات، وبعد أن عرض الرئيس الفلسطيني سلسلة طلبات طويلة أثار اقتراحا يثير الاهتمام. ‘اذا أردت أن تستغل الوقت فيمكن انشاء قناة خلفية سرية للتفاوض في التسوية الدائمة’، قال لشارون.
وحينما حانت نوبة شارون للحديث عرض سلسلة بوادر حسن نية اسرائيل مستعدة لتنفيذها كانسحاب من عدة مدن فلسطينية في الضفة وازالة حواجز. ولم يوافق شارون على الافراج عن السجناء الذين طلبهم عباس لكنه وافق على الافراج عن 900 سجين آخر: ‘إن الافراج عن السجناء ليس أمرا سهلا في اسرائيل. كان عندنا في الاربع سنوات والنصف الاخيرة ألف قتيل وليس ذلك سهلا على العائلات لكننا سنتقدم ما بقي الهدوء موجودا. نحن نقول ببوادر حسن نية كثيرة لكن الارهاب مستمر في كل مكان’.
أبو مازن: ‘لحظة لحظة (باللغة العبرية)، أنا في منصبي منذ ثلاثة اسابيع فقط’.
شارون: ‘عندك مشكلة في انشاء الحكومة وعندي مشكلة في داخل الحكومة’.
محمد دحلان: ‘ربما نجري تبادل وزراء’.
شارون: ‘أنا مستعد لأن ننشيء لجنة من اجل ذلك. يرأسها صائب عريقات… ليست خطة الانفصال أمرا سهلا في اسرائيل. وقد اقترحت أن نلتقي في رام الله لأنني سأكون هناك أكثر أمنا’.
برغم الجو المريح تحول شارون في مرحلة ما الى لغة أكثر جدية وأكد أنه لن يوجد تقدم سياسي من غير مكافحة فلسطينية للارهاب. ‘أنا مصمم على تنفيذ خطة الانفصال وأريد أن تكون بتنسيق معكم ولا سيما موضوع الامن والممتلكات’، قال. ‘علينا أن نوثق التعاون الامني. أريد القيام باعمال كبيرة لكنني لا استطيع قبول الارهاب’.
أبو مازن: ‘إن الأمن في مقدمة اهتماماتنا… نريد أن يترك المستوطنون مع أزهار وورد’.
شارون: ‘لن نحصل على ازهار من المستوطنين. أريد أن تأتوا الى المزرعة. سأفكر في طعام طيب. سألتقي الفلاحين في المنطقة وأحدثكم في وزن العجول والشياه’.
أبو العلاء: ‘هل تأتي إلينا في أبوديس؟’.
شارون: ‘كيف آتي؟ وقد بنيت جدارا هناك’.
بيد أن الابتسامات اختفت بعد ذلك بثلاثة اشهر، وبدأ شارون يظهر عدم الصبر على عجز السلطة الفلسطينية في حربها للارهاب في غزة. في 30 أيار 2005 التقى شارون عضو مجلس النواب الامريكي جيم كولبي وتنبأ بصورة دقيقة بالمزاج العام الذي سيغلب على الجمهور الاسرائيلي بعد ذلك ببضع سنوات نحو المسيرة السلمية. ‘سيكون استعدادي واستعداد الاسرائيليين للتقدم في مسيرة السلام بعد الانفصال مشروطا بحرب الفلسطينيين للارهاب’، قال. وتحدث شارون عن أنه قبل ذلك بمساء واحد سقطت قذيفة قسام عند مدخل مزرعة شكميم. وأكد أن اطلاق القذائف من غزة يجعل الجمهور الاسرائيلي يفقد الثقة بسياسته. وقال: ‘كل عملية ارهاب تزيد في سوء وضعي الداخلي. انخفض تأييدي في استطلاعات الرأي من 70 بالمئة الى 54 بالمئة’.
بعد ذلك بثلاثة اسابيع في 22 من حزيران 2005، التقى شارون وعباس مرة اخرى وكان ذلك في بيت رئيس الوزراء في القدس هذه المرة. وكان اللقاء الذي تم قبل الانسحاب من غزة بشهرين أقل بهجة من اللقاء في شباط. فقد جاء في وثيقة تلخيص اللقاء التي كتبها قسم التفاوض من م.ت.ف أن عباس ومستشاريه خرجوا خائبين وعرفوا الوعود التي حصلوا عليها من شارون بأنها ‘تكرير’. وقد تخلى شارون في هذه المرة عن النكات وبدأ اللقاء بحديث ذاتي مدة ربع ساعة. ‘وعدتَ بأن تبدأ نقض البنى التحتية للارهاب لكن ذلك لم يحدث’، قال لعباس. ‘ما الذي تنوي فعله لوقف العمليات؟ أنا أعلم أنك مصمم على وقف العمليات… طلبت استخباراتنا أن توقفوا مطلوبين وتفضلنا عليكم بزيادات لكن لم يحدث شيء’.
‘وأشار شارون لعباس اشارة خفية الى أنه ينوي تنفيذ اجراءات سياسية اخرى بعد الانفصال لكنها متعلقة بالوضع الامني. ‘نطلب أن يكون الوضع في غزة هادئا في اثناء الانفصال’، قال لعباس. ‘سيزيد التنسيق بيننا في احتمال حدوث ذلك. فاذا كانت السلطة الفلسطينية مستعدة للتنسيق فستكون اسرائيل قادرة على تنفيذ خطوات اخرى في المستقبل، لكن اذا وقعت هجمات ارهابية فسنوقف الانفصال كله’.
وحاول الرئيس الفلسطيني أن يدافع عن نفسه وأجاب مازجا بين الدفاع والهجوم المضاد قائلا: ‘كل رصالة تطلق عليكم توجه إلينا ايضا فثمة أناس يريدون تدمير مسيرة السلام، لكن اذا طاردناهم وقتلناهم فسيضر ذلك فقط بمسيرة السلام. تفهم صعابي… ففي الاشهر الخمسة التي قضيتها في منصبي لم تفعل أنت شيئا لمساعدتي’.
شارون: ‘يجب مكافحة الارهاب… عندك من القوة والسيطرة أكثر مما أنت مستعد للاعتراف به… أنا أتفهم وضعك لكنني لا أستطيع أن أساعد بالافراج عن سجناء ما بقيت صواريخ القسام تسقط في اسرائيل ويخطط لعمليات انتحارية’.
أبو مازن أجاب بغضب: ‘أنت لا تعطيني أي شيء’.
تدخل محمد دحلان: ‘هذا اللقاء فكاهة’.
شارون: ‘أنتم في مفترق مهم… اذا أعطيت أكثر في الشأن الامني فسنعطي أكثر في الشؤون المهمة لك’.
أبو مازن: ‘ليست عندي الوسائل والقدرة لأجرد اولئك الذين يتعدون على وقف اطلاق النار من سلاحهم. إن توجهك يحدث انطباع أن السلطة الفلسطينية تشجع العنف في حين أن الوضع بعكس ذلك’.
شارون: ‘لم أقل إنكم تؤيدون الارهاب، لكنكم لا تفعلون ما يكفي لوقفه’.
أبو العلاء: ‘فعلنا كل ما نستطيع في شأن تنسيق الانسحاب من غزة، برغم أنكم قلتم إن الحديث عن اجراء من طرف واحد. إن الانفصال قد يقوي السلطة الفلسطينية أو يضعفها تماما والنتيجة في يد اسرائيل’.
بعد ذلك اللقاء مع عباس في بيت رئيس الوزراء بنصف سنة رقد شارون رقدته الطويلة. ويصعب أن نعلم هل كان سينفذ وكيف الخطط التي خططها على مسامع الامريكيين والفلسطينيين. فالوثائق الامريكية والفلسطينية تُبين كيف زاد شك شارون بالفلسطينيين وقوي كلما اقترب الانفصال. وبرغم ذلك لم يقدر تقديرا صحيحا ما سيحدث هناك بعد أقل من سنتين. ‘لا أتوقع أن تسيطر حماس على غزة’، قال للسناتور كارل لفين في 14 آذار 2004. ‘فهم يخشون أن نضربهم بقوة أكبر في اليوم الذي يلي الانسحاب’.