حماس تتمأسس كسلطة

بقلم: آفي يسسخاروف
للحظة بدا هذا الأسبوع أن إسرائيل وحماس على حافة تصعيد آخر في غزة. هذا على الأقل هو الانطباع الذي تولد في الأيام الأخيرة إثر الأحداث الأمنية هناك. المزيد من الصواريخ المزيد من العبوات الناسفة. خمسة صواريخ أطلقت نحو عسقلان (ستة، واحد سقط في منطقة مفتوحة) في الأسبوع الفائت وبداهة، الصواريخ التي أطلقت نحو جنازة أرييل شارون رغم التحذيرات المتكررة من جانب إسرائيل. وبالمقابل، اغتيال ناشطي الجبهة الشعبية ومحاولة اغتيال رجل الجهاد الإسلامي. ومع ذلك، على الأقل حتى كتابة هذه السطور، لا تبدو حماس كفصيل يسعى للتصعيد مع إسرائيل.
فضلا عن ذلك، أيضا التنظيم الذي أطلق وتضرر، الجهاد الإسلامي، أصدر يوم الأربعاء بلاغا جاء فيه أنه يسعى للمحافظة على وقف إطلاق النار. وقال المتحدث باسم الجهاد في غزة داوود شهاب ان "وجهة التنظيم ليست نحو التصعيد وإن جهودا كبيرة تبذل لاستعادة التهدئة وفق اتفاق تشرين الثاني 2012 "(نهاية عملية "عمود السحاب"). واتهم شهاب إسرائيل بالتصعيد الأخير. وحسب وعمه، فإن العدو الصهيوني ينتهك التفاهمات التي تحققت في نهاية "عمود السحاب". ولكن الواقع أكثر تعقيدا. ووفق معلومات وصلت من غزة فإن قرار رجال الجهاد إطلاق الصواريخ الستة فجأة على عسقلان، لم ينبع من نية التصعيد ضد إسرائيل بسبب انتهاك تفاهمات وقف النار، وإنما بسبب خلافات بين الذراع العسكري لحماس (عز الدين القسام) وقادة في الذراع العسكري للجهاد (سرايا القدس).
ويمكن التقدير أنه لو أصابت الصواريخ عسقلان (خمسة منها كانت ستسقط في عسقلان وفق رادار "القبة الحديدية)، لانتهى الأمر بوقوع إصابات إسرائيلية، وكما يبدو أيضا بعملية عسكرية أشد هجومية ضد غزة. لكن عمليات الاعتراض الناجحة للبطارية ورجالها وفرت مرة أخرى تصعيدا خطيرا في غزة. والأمر لا يتعلق بحادث هو الأول الذي تطلق فيه الصواريخ نحو إسرائيل بسبب ظروف لا ترتبط أبدا بـ"العدو الصهيوني". وهذه المرة أيضا بعثت إسرائيل لحماس والجهاد رسالة عبر المصريين بوجوب وقف الإطلاقات وإلا فإن الرد سيكون قاسيا.
وللجهد الإسرائيلي - المصري (الإسرائيلي غير مباشر) للضغط على الجهاد للتهدئة، انضمت هذه المرة حركة حماس. ورغم الانطباع الناجم عن تصريحات مسؤولين إسرائيليين كبار مثل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن التصعيد هو نتاج فعل التنظيم، فإن حماس نفسها تبذل الكثير لوقف تام لإطلاق النار على إسرائيل. وقد أعادت حماس إنشاء جهاز خاص باسم "ضبط الميدان" يعمل على مدى ساعات اليوم وطوال الأسبوع لمنع إطلاق الصواريخ على إسرائيل. ويعد هذا الجهاز حوالي 600 جندي وتم تعزيزهم مؤخرا. وهم يخضعون لإمرة رئيس الجهاز العسكري، محمد ضيف، الذي حاولت إسرائيل مرارا اغتياله وهم يتلقون رواتبهم من ميزانية "عز الدين القسام". وقد برهنت هذه القوة نجاعتها بشكل مذهل. صحيح أن إطلاق الصواريخ لم يتوقف تماما كما تريد إسرائيل، لكن عدد الإطلاقات تقلص جدا في العام الأخير.
وهكذا مثلا، في عام ما بعد عملية "الرصاص المسكوب" أطلق الفلسطينيون من غزة 370 صاروخا نحو إسرائيل. في عام ما قبل "عمود السحاب" أطلقوا 898 صاروخا (وخلال عمود السحاب أطلقوا 1406 صواريخ على إسرائيل، بمتوسط 150 صاروخا يوميا. للمقارنة في "الرصاص المسكوب" أطلقوا 20 صاروخا يوميا في المتوسط). لكن منذ نهاية "عمود السحاب" وحتى كانون الأول الفائت أطلقوا 47 صاروخا فقط. ونشاط حماس هذا يخلق واقعا مختلفا لدى معظم سكان الجنوب، يمكن فيه أن تسير الحياة الاعتيادية معظم أيام السنة. ومع ذلك فإن 47 صاروخا هي أكثر من اللازم لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
راية المقاومة نصف مرفوعة
والمعطيات التالية قد تفاجئ كبار المسئولين في المستوى السياسي. وبحسب الجيش الإسرائيلي، منذ "عمود السحاب" لم تطلق حماس ولو صاروخا واحدا. إذاً كيف نفسر التصعيد الجزئي الذي حدث في الأيام الأخيرة؟ الأقوال التالية لن تكون مريحة لحماس، لكن هذا التنظيم تحول إلى نوع من السلطة الفلسطينية ارقم 2 في قطاع غزة، خيرا كان أم شرا. وتذكرنا تبريرات الإطلاق الأخير بالأيام البائسة للسلطة الفلسطينية، التي حاولت فيها وجهدت، لكن حماس والجهاد واصلا إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل. وهذا تحديدا هو الواقع من ناحية التنظيم هذه الأيام. إذ حتى عندما يحاول الحفاظ على وقف النار، لا يفلح في ذلك. وثمة تشابه آخر مع السلطة الفلسطينية وهو أن نشاطات حماس تستند أساسا إلى تفاهمات واتفاقات مع التنظيمات الأصغر والجهاد الإسلامي، أقل مما تستند إلى الفرض والإجبار، بما في ذلك سياسة "الأبواب الدوارة". فالنشطاء المشتبه بعضويتهم في منظمات إرهابية جهادية أو إطلاق نار على إسرائيل وتعتقلهم حماس، يفرج عنهم بعد وقت قصير.
وقد يفسر هذا الإفراج بأنه ضعف. وقد تشتم منظمات معينة في القطاع رائحة الضعف الذي أصاب حماس، في المجالين العسكري والاقتصادي، والنابع من إسقاط حكم "الإخوان المسلمين" في مصر ويستغلون ذلك لعمليات ما كانوا يسمحون لأنفسهم سابقا بفعلها. وهذه الجماعات، سواء أكانت من الجبهة الشعبية أو من الجماعات السلفية الجهادية، تفهم أن تأييد الشارع لحماس يتراجع. وفي نظرها، ستمتنع حماس عن تنفيذ أعمال عنفية ضدها تستجلب انتقادات شديدة في القطاع. من هنا ربما ولد هذا إحساسا بضعف الانضباط في أوساط المنظمات الصغيرة في القطاع وإطلاق النار المتزايد على إسرائيل. وحماس من جانبها المطلوب منها الانضمام لـ"المقاومة" ضد إسرائيل، تطلق تبريرات مشابهة لتلك التي كانت تطلقها السلطة الفلسطينية في حينه لشرح سبب عدم انضمامها لإطلاق النار. وبحسب حماس، فإن الفترة الحالية ينبغي أن تكون مكرسة لبناء القوة وليس لمواجهة مع إسرائيل تقود سكان القطاع لدفع ثمن باهظ جدا مقارنة بما يدفعه "الصهاينة".
ورغم افتراضات الجانب الإسرائيلي بأن حماس تنوي الحفاظ على الهدوء والاستقرار، ليست واضحة هذه الرغبة تماما في ضوء غياب الانجازات في الجبهة الداخلية الغزية. فالوضع الاقتصادي لسكان القطاع لا يتحسن، في أقل تقدير. صحيح أن انقطاع الكهرباء اليومي تقلص من 16 ساعة يوميا إلى 8 ساعات "فقط"، لكن ذلك لا يضمن لأهالي غزة مستقبلا أفضل. فإغلاق الأنفاق في غزة قاد إلى تراجع حاد في موارد حماس وبالتوازي إلى صعود حاد في غلاء المعيشة في القطاع. وبوسع المنظمة السماح بنقل بضائع من إسرائيل لكن ليس بوسعها تخفيض أسعارها للمستهلك الذي هو فقير أصلا ومحتاج. وينبغي أن نضيف لذلك العزلة الدولية التي تعاني منها حماس: فالأزمة شديدة مع مصر، سوريا، الأردن، السعودية وحتى إيران غير متحمسة لمساعدة حماس في حل أزمتها الاقتصادية. وتجدر الإشارة إلى ان تركيا أردوغان، وهي من الحلفاء الأقرب لحماس في السنوات الأخيرة، لم تسرع للوقوف إلى جانب المنظمة ومساعدتها ماليا أثناء أيام أزمة الكهرباء الكبيرة.
أنفاق وصواريخ
ورغم كل ما سلف، والمصاعب الاقتصادية الكبرى، وتقريبا بشكل عجيب، تفلح حماس في مواصلة تعزيز قدرتها العسكرية. ورغم خسارة حوالي 240 (هكذا في الأصل!) مليون دولار كل شهر كانت تدخل خزينة المنظمة من الضرائب على الأنفاق في رفح، تواصل حماس العمل بجد في مشروعها العسكري الكبير: التزود بالصواريخ بعيدة المدى وحفر الأنفاق. وحاليا لدى حماس صواريخ من طراز M-75 أنتجت في غزة وقادرة على بلوغ منطقة غوش دان.
وتخبأ هذه الصواريخ في مناطق متنوعة مثل المباني المتعددة الطوابق، مخازن أو حتى في حفر عادية. وبالنسبة للجانب الإسرائيلي فإن استخدام حماس للبيوت السكنية لتخزين الصواريخ، يخلق مشكلة غير بسيطة في المواجهة المقبلة: فهل ستهاجم مباني من سبعة - ثمانية طوابق خزنت أسفلها صواريخ أم لا. وحاليا وعبر منظار بسيط يمكن من الجانب الإسرائيلي أن ترى بوضوح كيف تضع حماس وسائل مراقبة مثل الكاميرات، على المآذن وخزانات المياه. والمعنى أنه في الحرب المقبلة، إذا هاجمت إسرائيل هذه الأماكن فسيتم اتهامها بتدمير المساجد.
وبالتوازي، فإن مشروع حفر الأنفاق في غزة، يتواصل بشدة. وهذه الأنفاق هجومية تقود إلى إسرائيل ويقدر عددها حاليا بالعشرات وأيضا شبكة أنفاق دفاعية داخل القطاع. ومن الواضح أن استثمار حماس في القوة البشرية وميزانية هذا المشروع هائل، يوازي فقط الاستثمار في الصواريخ. والأنفاق تتطلب قوة بشرية خبيرة وأيضا مواد بناء لا تتوفر بكثرة في غزة، أيضا بسبب القرار الإسرائيلي بمنع دخول مواد البناء للقطاع.
وفي نهاية المطاف تنجح حماس في إيجاد الحلول للنقص الشديد في مواد البناء لكل ما يتعلق بحفر الأنفاق. وبناء نفق هجومي نحو إسرائيل يمكن أن يستمر أكثر من عام ويكلف أكثر من مليون دولار. ويمكن أن يتم الحفر بعمق يزيد على عشرين مترا، بشكل يجعل من الصعب على الجيش الإسرائيلي اكتشافها بالحفر الاعتيادي. وهذا بالنسبة لحماس المشروع الذي لا يقل أهمية عن الصواريخ. أما من يشرف على هذا المشروع فليس سوى رئيس الأركان، محمد ضيف.
وتقف حماس حاليا أمام فترة انعدام يقين. لقد كان العام الأخير عاصفا ومزعزعا بامتياز، جلب معه تغييرات استراتيجية من النقيض إلى النقيض. والنصف الأول لعام 2013 كان بمعان كثيرة، العسل، أيام نشوة التنظيم، بينما كان النصف الثاني أيام البصل. فأين سيقودنا العام 2014 في ظل ترسيخ الحكم المعادي لحماس في مصر؟ يصعب القول في هذه المرحلة. الأمر الأكيد هو أنه في الشرق الأوسط المعاصر، لا يجدر بأحد أن يقامر.