عنفوان أخيل في متاهة عوليس

بقلم: جمال الجمل

"كوفيةٌ فى الريح تخفقُ
خصلةٌ من شعرك الوثني
مشبعةٍ بملح البحر
تخفقُ"
تلك هي الصورة التي حفرت مكانها في ذاكرتي للشاعر الفلسطيني المقاوم معين بسيسو.. نوتي خرافي يمتطي ظهر مركب في رحلة عوليسية خرافية بحثا عن وطن مخبأ في متاهة العجز العربي.
كان الصديق حمدين صباحي عائدا لتوه من اليونان، حيث شارك في مؤتمر دولي لدعم قضية فلسطين، وهناك التقى الشاعر سميح القاسم، وبعد حديث طويل عن الشعر والوطن، أهداه ابن الرامة ديوانه الجديد "شخص غير مرغوب فيه".
وفوق نيل القاهرة جلسنا نتبادل قراءة القصائد، واختار حمدين أن يقرأ مرثية سميح "إلى المتماوت.. معين بسيسو: أنت تدري كم نُحبُك"، والتي تبدأ بصورة الكوفية الخفاقة في عرض البحار، وعندما انتهينا من قراءة الديوان كاملا، أدركت أن معظمه رثاء لبسيسو، وليست هذه القصيدة فقط، فيما عدا القصائد التي بدأها سميح قبل عام 1984، فالقصيدة المفخخة، ومأساة هوديني المدهش، وشخص غير مرغوب فيه، تتحدث جميعها عن بسيسو في صورة الفلسطيني الموزع بين المطارات والمرافئ من سفر إلى سفر، بحثا عن وطن يغيب في الخرائط ويكرس نفسه في القلوب والذاكرة
كنا في عام 1986، شبابا يمتطي حماسة الأحلام، ويتحدث بيقين عن الثورة والمقاومة وتحرير كامل التراب الفلسطيني، ولم نكن نعبأ ببوادر تحولات العالم من حولنا، كنا أقرب للمقولات القاطعة التي امتلأت بها أشعار معين بسيسو، وشعراء المقاومة في فلسطين، وحالة لبنان الخارجة من اجتياح 82 بجرح واقعي غائر، وزهو فني ساطع، صنعته ملحمة صمود بيروت، كما خلدها شعر المقاومة، وأغنيات مرسيل خليفة وأحمد قعبور، وخالد الهبر، وعدلي فخري وآخرين.
ملحمة بيروت 82
لم تكن معركة بيروت على غرار "المعركة" التي اختارها بسيسو عنوانا لديوانه الأول، لكنها كانت محطة لسفره الاختياري إلى استراحة الموت. كان معين حينذاك في الاتحاد السوفيتي لحضور اجتماع الهيئة الرئاسية لمنظمة التضامن الأفرو أسيوي بطشقند، وعندما وصلته أخبار الاجتياح قطع مهمته عائدا إلى بيروت، ليقضي (88 يوماً خلف المتاريس) عايش خلالها الحصار جوعا وعطشا، شعراً ونثراً، حياة وموتا، وهتف بطريقته اليقينية التي بدت منذ ديوانه الأول "المعركة":
"لن تدخلوا بيروت
ستموتون تحت شبابيك المدينة التي لا تموت
ستسقطون تحت سقوفها.. متاريسها
لن تدخلوا بيروت
كل كيس رمل، كل صخرة،
كل موجة في بحرها
تابوت"
كما كتب مع محمود درويش قصيدة مشتركة بعنوان "في وسط الحصار: رسالة إلى جندي إسرائيلي":
نكتب لك‏
من قبل أن تشعلنا قذيفة أو تشعلك‏
رسالة المحاصر الأخير للمحاصر الأخير‏
نكتب من شظية أرسلتها..‏
لتحملك‏
من عتمة الجيتو إلى أجسادنا..‏
نكتب لك‏
لنسألك‏
إلى متى تحارب الجزيرة البحرا؟
كنا نتداول القصيدة في أمسياتنا، ونتبارى في التخمين عن أي مقطع كتبه درويش وأي مقطع كتبه بسيسو، وكانت الترجيحات تعطي الصور الإنسانية لصاحب "ورد أقل"، وتعطي مقاطع القوة والحسم والوعيد لشاعر المعركة الذي ظل حتى ذلك الحين يقاتل بنفس اندفاع الشاب الغزاوي الذي كان يخرج مفتوح الصدر ليقود التظاهرات، فلا شك إذاً في أنه هو الذي يحذر الجندي المسربل بالدروع من مصيره المحتوم، ويسأله في تحد: هل أنت في أمان؟!، وأنت خلف غابة القضبان.. حذار أن تشعر بالأمان.
هكذا كان الشاعر الدونكيشوتي يوزع اليقين لنفسه قبل الآخرين، وحسب محمود درويش لم يكن هناك من يقدر على إقناع معين بأن الإسرائيليين قد يدخلوا بيروت. "كان يفقد صوابه، لا لسبب إلا لأنه خلق واقعا حين قال لهم :لن تدخلوا بيروت".. لقد تحول القرار الشعري من استنفار لروح المقاومة إلى قوة مادية لا يمكن اختراقها، وهكذا كان معين يكذب الواقع لتبقى القصيدة على صواب"
ويضيف درويش أن معين " حين يتجول بين قذائف بيروت كان يدرك أنه لن يموت، لأنه لا يريد أن يموت (...) إنه شاعر ملئ بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتاف متدفق، فكيف تلجم شاعرا يؤمن حتى التدين بأن القصيدة قوة حركة، قوة حزب، قوة قادرة على التغيير الفوري؟
كان معين يتمثل ماياكوفسكي، ويتهم درويش بالهدوء والسكينة، حتى أنه كاد يقتله ذات مرة، عندما أشهر مسدسه ليحسم نقاشا مع قارئ خبيث قال له إن المحاصرين في تل الزعتر محتاجون إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الشعر، ويقول درويش إن معين "استل مسدسه وأطلق رصاصة مرت فوق كتفي، لأنه كان مسكونا بهاجس أن التاريخ قد يتفرغ لمراقبة الشاعر والبحث عن التناقض بين موقفه وشعره، ولذلك كان حين يجد دوره يجد صوته".
خدوش تمثال الضوء
لم يمت بسيسو في حصار بيروت، لكن شيئا ما أصابه في العمق، وبدا واضحا في حركته وأشعاره، ونبض قلبه، ففي البداية صب جام غضبه على ما وصفه بتخاذل المثقفين العرب، وقال "إن معظم ديوك الصفحات الثقافية انقلبوا عند العدوان على لبنان إلى دجاجات تبيض في الخوذات الفولاذية للاحتلال الإسرائيلي، وينكشون مزبلة الصمت بمناقيرهم ويبتلعون أقراص منع الكتابة"، وهي عبارة هجائية رمزية اتسمت بها الكثير من أشعاره السابقة التي ركزت على ما يمكن تسميته بمفارقة "الدم والحبر" في قصائده، والتي بدت جلية في "عموا صباحا أيها الكتاب"، لكن الشاعر الذي رفض الاعتراف بالموت، وطالب الموتى أن يفيقوا، لأن "عهد الموت زال"، شاهد الموت بعينيه وعاقره يوميا في بيروت، وتذوق طعمه الاحتجاجي عبر رصاصة صاحب الجسر خليل حاوي، وطعمه العبثي عبر شظية الفلسطيني الطيب شاعر الرصيف على فودة، ومئات العيون التي أغلقت والقلوب التي توقفت لبشر لايعرف أسماءهم، لكنه شاهدهم يذهبون، واستمع إلى درويش يهمس: "مازلت حيا؟.. ألف شكر للمصادفة السعيدة"، كما روعته المذابح، ومشهد خروج المقاتلين الذي بدا للكاميرا زهورا واحتفالا، وللقلب وجع ومنفى جديد، وخطوة أبعد عن البلاد.
دخلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت، غداة مقتل بشير الجميل في خريف1982 وعرف معين أنها طاردت ظله ضمن قائمة من أسماء المقاومة، حتى أنها غامرت بانتهاك سيادة السفارة السوفياتية، بحثا عنه، لكنه كان قد خرج إلي اليونان في سفينة أبو عمار، وتاثر معين أكثر بانشقاق أبو موسي، وانقسام فتح، ويبدو أن صمود المطلع الشعري قد اهتز أمام عنف القصف حسب شهادة درويش الثاقبة التي يقول فيها "ارتبك الشاعر خوفا من هزيمة صرخته، وخرج يبحث عن أمل اسطوري، وراح يتطلع إلى البحر لعله يحمل النجدة للقصيدة (...) كان معين يطرد فكرة الموت كما يطرد ذبابة، وكان يمازحنا ويهددنا جميعا بالرثاء، كان يكره الرثاء ويمقت المشهد الفلسطيني اليومي في طابور الموت، فهل كان انطباعنا السريع حول خلوه من فكرة الموت صحيحا؟ . لا أظن، لأن من شاهد معين بسيسو في أيامه الاخيرة، شاهد خدوشا في تمثال الضوء، كان حزينا كوقفة وداع منكسرة، فما تعرض له الحلم الفلسطيني على أيدي بعض حراسه وجه إلى روحه رصاصة الاكتئاب، لقد هرم قليلا حارس النار، ولعله ذهب هذه المرة إلى ذاته. حاول أن يحصي منافيه وسكاكينه، فما زالت غزة تبتعد، وماذا يفعل الشعر؟، ولهذا أطلق على عمله الأخير هذا الاسم النهائي "القصيدة".. لأنه كان عرضة لإحساس بالنهاية.. كان يريد أن يموت".
دعابة سوداء
كان درويش يدرك مبكرا أن شبق معين للحياة يخفي خوفه الدفين من الموت، فيما كان سميح القاسم يؤمن بأسطورية معين بسيسو (هوديني الفلسطيني المدهش)، ويؤمن أنه "يتماوت" ولا يموت، فيقول له في أول مرثية:
"نحنُ نعرفُها
دعابتكَ الفلسطينيةَ السوداءَ,
نعرفُها
فلا تثقل علينا بالمطالِ وبالرجاء
متماوتٌ
متماوتٌ
أسرت بك الأشواقُ
من أرضٍ
إلى أرضٍ بعيدة
متماوتٌ !
قلها وفاجئنا،
بأغنيةٍ جديدة
..
لم يبق وقتٌ عندنا للموت
إن ننقُص
يزد أعداؤنا
فانهض
رشيقَ القلبِ والخطوات"
وعقب موت معين كتب درويش قصيدة بعنوان "أسَمَّيكَ نرجسةً حول قلبي" ضمنها ديوان "هي اغنية"، وأهداها لسميح القاسم، لكن رسالتها وأسئلتها تبدو اقرب لمعين بسيسو، فيقول فيها:
"لو كان قلبي معكْ ،
وأودعتُهُ خَشَبَ السنديان،
لكنتُ قطعتُ الطريقَ بموتٍ أقلّ"
ويسأل في نفس القضية الشائكة التي كانت محلا لخلاقه الدائم مع بسيسو:
"أما زلتَ تؤمنُ أن القصائد أقوى من الطائراتْ؟
إذن، كيف لم يستطع إمرؤُ القيس فينا مواجهة المذبحة؟"
وفيما يشبه لوم الذات يضيف درويش:
"سؤالي غلط
لأن جروحي صحيحة
ونطقي صحيح، وحبري صحيح، وروحي فضيحة.
أما كان من حقِّنا أن نكرّس للخيل بعضَ القصائد قبل انتحار
القريحة؟
سؤالي غلطْ
لأني نمط"
درويش أيضا كان يعاني نفس الوجع من الهزائم المتوالية وابتعاد الوطن، كان يشعر أن "البروة" تبتعد عنه، كما ابتعدت غزة عن معين، و"بير زيت" عن كمال ناصر، و"علار" عن علي فودة، و"بيت لحم" عن جبرا إبراهيم، و"نابلس" عن وائل زعيتر، و"دورا" عن ماجد أبو شرار، وعكا عن غسان كنفاني، والناصرة عن ناجي العلي، و.....، وكان يكشف زيف البلاد التي غابت فشيدها مع الشعراء في اللغة، ويسأل نفسه ورفاقه: ماذا دهانا؟.. ماذا أصاب الوهج؟، وكان القاسم يضحك بعبثية سيزيفية وهو يطالب بعضوية اليونان في جامعة الدول العربية، لأنها أكثر دعما لقضية فلسطين من "أخوة يوسف"، فيما كان معين بسيسو يحتمي بالموت من خيبة كبرى، لو عاش تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار حلم اليسار، ودخول الشيوعيين إلى متاحف الكائنات المنقرضة، وانقسام الوطن إلى ضفة وغزة وشذرات أخرى، لذلك وفي نهاية العام 1983 أظنه أمر قلبه بالتوقف، وبدأ حيلة "المتماوت"، عندما شاهد عرفات وصحبه في مسيرة الخروج الثاني من طرابلس على متن سفينة تحمل اسم "أوديسيوس إيليتيس".. ويا لها من تراجيديا محزنة ليست لأوديسيوس وحده، ولكن لبينلوبي التي لوعها الانتظار.
خاتمة:
يبقى صوت معين بسيسو دالا وكاشفا في آخر تسجيل صوتي معه، وهو يجيب على سؤال المحاور في تليفزيون الإمارات:
* معين بسيسو إلى اين؟
- فيرد معين: إلى المدى الذي حدثنا عنه الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت، عندما صرخ في قصيدة له: وضعوا الشاعر في الجنة، فصاح: آه يا وطني.

- شاعر وناقد مصري