الاحتلال يتنافى مع الديمقراطية

بقلم: يوسي بيلين

بين الحين والاخر تطرح من جديد مسألة اذا كنا نحن دولة لها جيش أم جيش له دولة. على أحد جانبي المتراس يطرح الادعاء بان الجيش في اسرائيل مسيطر جدا ويملي على أصحاب القرار العديد من الخطوات، بما في ذلك تلك المتعلقة بميزانيته ويتدخل جدا في قرارات تكتيكية واستراتيجية. ويقال لنا أن الجيش مسؤول عن قسم هام جدا من اراضي اسرائيل وانه توجد ‘شبكة أمان’ (كما يسمي ذلك البروفيسور غابي شيفر) من الضباط في الماضي وفي الحاضر، ممن يؤدون أدوارا مركزية في الصناعات الامنية، في الاقتصاد الاسرائيلي، في أجهزة التعليم وفي السياسة. وللجيش يوجد تأثير هائل، وهو يستغل ذلك لغرض التطرف السياسي واستخدام القوة حتى عندما تكون هناك بدائل افضل.
ومن الجانب الاخر من المتراس يدعون ولا سيما اولئك الضباط السابقون بان اسرائيل هي ديمقراطية نموذجية، رغم التحديات الامنية التي تتصدى لها، وان الجالسين في الحكومة وفي الكنيست هم الذين يتخذون القرارات، والجيش ينفذ الاوامر فقط، حتى لو كان مطالبا بالتوصية بالبدائل. السياسيون يقررون من يقف على راس الجيش واذا كانت حاجة لتغييره، ويصيغون السياسة التي لها آثار مباشرة على وضع الامن، غير مرة خلافا لتوصية الجيش.
وغير مرة يقول ذات الضباط السابقين، ان الجيش بالذات هو الذي يتحفظ من خطوات عسكرية تفكر فيها القيادة المدنية (في السياق الايراني مثلا) وفي الادبيات المهنية يشار دوما الى الهند واسرائيل كدولتين ديمقراطيتين للجيش فيهما مكان مركزي، ومع ذلك ليس في أي منهما احتمال بانقلاب عسكري.
ولكن لا ريب أن مسألة العلاقات بين الحكومة والكنيست وبين الجيش الاسرائيلي تستوجب فحصا دائما وحذرا. اسرائيل ليست دولة شرطة، لا سمح الله وليست دولة جيش ولا يدور الحديث عن جيش له دولة، ولكن عند معالجة المشكلة لا يمكن الاكتفاء بالقول ان اسرائيل هي دولة ديمقراطية ينفذ الجيش فيها ما تأمره الحكومة بتنفيذه، وذلك لان هذا ببساطة ليس دقيقا. ولا يمكن القبول بالادعاء العابث بان الدولة يسيطر عليها الجيش أو الدعوة الخطيرة: ‘دعوا الجيش ينتصر’. فالحديث يدور عن شبكة علاقات حساسة جدا تحتاج الى معالجة دائمة، وتنبع من الامنية العتيقة لافلاطون: من يحرس الحراس؟

بين الاسطورة والواقع

لا شك في أن اسرائيل تعيش في احساس دائم من التهديد. فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم التي أعلنت عن حالة طوارىء ولم تلغها على مدى 66 سنة (!). وجملة قوانين الطوارىء والابقاء سارية المفعول لمعظم أنظمة الدفاع للطوارىء والتي سنتها حكومة الانتداب البريطاني في 1945، يجعلنا، على الورق، الدولة التي ديمقراطيتها عليلة جدا.
ليس صدفة أننا نوجد ضمن تصنيف ‘الديمقراطيات العليلة’. فلدينا رقابة ليست في ديمقراطيات اخرى، خدمة الزامية في اسرائيل أطول مما في أي ديمقراطية اخرى في العالم. قسم كبير جدا من ميزانيتا مكرس لاهداف امنية.
الاحتلال المتواصل في المناطق (ولا توجد دولة ديمقراطية اخرى تحتل ارضا يعيش فيها شعب آخر) خلق وضعا توجد فيه منذ نحو 50 سنة الواحد الى جانب الاخر منظومتا قوانين تحت حكم واحد: منظومة قوانين ديمقراطية وانت كانت بعيدة عن أن تكون كاملة في اسرائيل السيادية، ومنظومة قوانين مسؤول الجيش عنها ويعدلها في الضفة الغربية. وللجيش يوجد مجال سيطرة واسع جدا في المناطق، وانعدام الديمقراطية في مكان واحد لا يمكنه الا يتسلل الى الاطار الديمقراطي.
صحيح أن الجيش الاسرائيلي مقدس في نظر الكثيرين، ومحاولات الرقابة على ميزانيته بشكل وثيق فشلت سواء في الكنيست أم في الحكومة. صحيح أنه بدلا من تقليص ميزانيته، تزداد ميزانيته، ونحن نميل الى أن نغفر له اخطاءه مثلما نميل الى ان التعاطي بجدية عميقة مع بيانات الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي.
على الرغم من ذلك فقد حصل الموقف من الجيش عندنا على توازنات مختلفة تماما مقارنة بالماضي. ففي الانتخابات للكنيست الاولى انتخبت مجموعة محترمة من ضباط الجيش الاسرائيلي، برئاسة موشيه دايان، ظهرت في البزات في الصورة الرسمية التي عرضتهم (كلهم استقالوا بعد الانتخابات). وفي نفس الفترة عشنا بين مسيرة عسكرية في يوم الاستقلال والمسيرة التالية، واكتظظن على المنصات وعلى الشرفات كي نشاهد الدبابات. وصور موشيه دايان وجنرالات هيئة الاركان انتشرت على شرفاتنا في كل يوم استقلال. في حرب الايام الستة تحولت الاسطورة الى واقع. الجيش اصبح موضع اعجاب حتى في نظر المشككين، ولكن كل هذا انتهى في حرب يوم الغفران، ولم يعد الى تلك الحجوم أبدا.
يوجد لنا جيش، ونصفنا تقريبا يخدمون فيه. من خدم فيه، اجتاز احدى تجارب حياته الاهم ان لم تكن الاكثر ديمقراطية فيها. الخدمة معا، ولا سيما في اوضاع الخطر على الارواح، يخلق رفاقية وعلاقات لا تنشأ في أي اطار آخر.

قيم الجيش

حتى لو كنت تؤمن بان السلام هو عنصر أمني حرج، الا ان المجتمع الاسرائيلي لا يزال كفاحيا جدا، ولا شك أنك ستشعر بالتضامن الفوري اذا ما روى لك أحد ما بانه خدم في حرب الايام الستة في اللواء 8 لمندلر، وقاتل معها في سيناء وفي الهضبة. ذات التضامن يمكن للمرء أن يشعر به فقط مع احد ما ولد في ذات المكان أو تعلم في ذات المدرسة.
لدينا ‘شبكة امنية’، ولكن هذه ليست شبكة بواسطتها تتغلغل قيم عسكرية الى المجتمع المدني بحيث ان الاحتياجات الامنية تعرض كمتعارضة مع تحقيق السلام. هذه شبكة تتغلغل فيها القيم المدنية الى المجتمع العسكري، تماما بذات القدر. ولما كان يدور الحديث عن تجنيد عام (وحسن ان هكذا) يوجد في هذه الشبكة أناس ذوو أراء مختلفة، قادرون على تغيير مواقفهم بعد أن يقتنعوا بذلك.
‘الشبكة الامنية’ ظاهرا، هي الشبكة الاجتماعية لاسرائيل، والتي خدم الكثير جدا من اعضائها في الجيش الاسرائيلي واجتازوا تجارب مشابهة صممت شخصياتهم. وهذا التميز الاسرائيلي كفيل بان يسهل علينا الوصول الى السلام مع الفلسطينيين، لانه حسب الاستطلاعات في السنوات الاخيرة، معظم اعضاء ‘الشبكة’ يفهمون بان السلام هو حاجة حيوية، وانه توجد ضرورة لدفع الثمن لقاءه. نحن دولة ديمقراطية، لها نواقص عديدة وجيش يطيع القيادة المدنية، يساهم مساهمة هامة في التراص الاجتماعي القادر على دعم القرارات التاريخية الحاسمة.

اسرائيل اليوم