إبراهيم محمد صالح (أبو عرب)… سنديانة فلسطين

بقلم: فراس كيلاني
قبل اكثر من عشرة أعوام وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كنت أعد فيلما وثائقيا عن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وعلى الرغم من عنجهية اللاجئ المقيم في ‘عاصمة الشتات’ مقارنة بباقي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، أدركت سريعا ان مخيم اليرموك يفتقد لسنديانته، لرموزه التي خربتها يد العبث البعثي من بوابة الاقتصاد والبزنس بعد العام 1982، فأحالته سوقا كبيرا.
كان لا بد من مخيم حمص، حيث يقيم على ضفافه رجل يختزل النكبة بحكايته وحكاياته، يعرفه القاصي والداني من اكثر من نصف مليون لاجئي فلسطيني يتوزعون على خمسة عشر مخيماً في سوريا.
كانت أغاني ابو عرب قرآننا في اليرموك، ‘من سجن عكا’، الى ‘يا يمة في دقة عبابنا’ لعشرات الأغاني والألحان التي حفرت في وجداننا جرح النكبة الذي لم نحيه نحن الجيل الذي ولد في الشتات.
ابو عرب عرّفنا على فلسطين عبر أشرطة ‘كاسيت’ كنا نتخاطفها نحن أبناء المخيمات، نشتم من ألحانها رائحة الأرض والدم والبارود، ونعيد غناءها في افراحنا واتراحنا، في وداع شهداء اليرموك الذين غصبت بهم مقبرة الشهداء ففتحت أخرى لاستقبالهم.
لطالما استحضرنا مع كلمات اغانيه تجربته المريرة التي ارتبطت بمغادرته القسرية مراهقا لقريته ‘الشجرة’، حيث استشهد والده دفاعا عنها، وليفجع بعد ثلاثة عقود بابنه، شهيدا ايضاً، على يد المحتل ذاته، لكن هذه المرة خلال اجتياح لبنان.
سنوات التيه في المنفى لم تنسه براءة القرية وطيبة ابنائها، ظل ذاك اليافع الممتلئ بالحماس لتحرير فلسطين من البحر الى النهر.
حين قابلته في ‘زمن الردة’ عام 2003 كان كما لو انه قد عبر للتو نهر الأردن في اتجاه المنفى، لم تفت في عضده كل تلك الهزائم والمحن التي عاشها وعايشها، أخذني في جولة في مخيم حمص، عرّجنا على شقيقته الحاجة رسمية، عرضت علي بدورها ‘كواشين’ ملكيتة الارض ومعمل زيت الزيتون في ‘الشجرة’.
حين عدت اليرموك لكتابة سيناريو فيلم ‘في انتظار العودة’، كان ابو عرب سنديانته، عنه تحدث الشهيد، ايضاً، غسان شهابي صاحب ‘دار الشجرة’ المتخصصة بتوثيق الذاكرة الفلسطينية، مشيداً بإرثه في الابقاء على الهوية الفلسطينية في الشتات حية تتغذى على أغانيه واشعاره والحانه.
وفي الوقت الذي يتقيح فيه جرح المخيمات الفلسطينية في سوريا ويتعفن في خضم الكارثة السورية، يرحل ابو عرب بصمت في حمص، بعيداً عن فلسطين، تماماً كما رحل غسان قبل نحو عام برصاص قناص اغتال اليرموك.
خسارة ابو عرب لا تعوض، بقاء إرثه حياً هو العزاء الوحيد لأكثر من خمسة ملايين لاجئ شبوا وشابوا على أغانيه..
القدس العربي