الشاعر الفلسطيني راشد عيسى: سينصفني النقاد بعد موتي والدولة كذلك… ما اطيب لذة الظلم!

حاوره: نضال القاسم
ولد الشاعر الدكتور راشد عيسى على ظهر صخرة عند السفح الغربي من الجبل الشمالي في مدينة نابلس في عام 1951م وتخرج في قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية عام 1993م حاصلاً على البكالوريس، وأكمل دراسته العليا فحصل على الماجستير من الجامعة نفسها عام 1996م، وعلى الدكتوراه من الجامعة الأردنية عام 2003م.
وخلال ثلاثين عاماً من الشعر الجميل أغنى الشاعر الدكتور راشد عيسى الحركة الشعرية العربية بإنتاج شعري ونقدي غزير ومواقف إنسانية مع الحرية وحق التعبير.
وراشد عيسى، وجه لامع ينتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري، وهو الجيل الذي امتاز بالتعامل مع الواقع بكل إشكالياته من خلال التعامل بإشكاليات فنية جديدة. والحديث معه، هو حفر في ذاكرة تاريخية تضم نهراً متدفقاً من الأحداث والذكريات والمواقف. وتعد دواوينه:- ‘ ‘شهادات حب’، ‘امرأة فوق حدود المعقول’، ‘بكائية قمر الشتاء’، ‘وعليه أوقع′، ‘ما أقل حبيبتي’، ‘يرقات’، ‘حتى لو’، ‘جبرياء’، من معالم الشعر العربي الحديث.
ويمكن إجمال الخصائص الأساسية لشعر راشد عيسى بقدرته المدهشة على اختيار المفردات الموحية، خارج إطار القاموس الشعري المألوف، والتركيز على الحدث وحده، في شكل لقطات مرئية خاطفة، والانفعال الداخلي العميق، النابع من تجارب العصر من خلال رؤية إنسانية مرهفة، كما يتميز شعره بالإفادة الواضحة من الفنون التشكيلية والسينما، واستخدام الألوان، والمونتاج في توزيع اللقطات والصور، وتعدد الأصوات، والتضمين..
لا يزال راشد عيسى ينبض بعافية شعرية، وفي هذا الحوار الذي أجريناه معه في العاصمة الأردنية عمّان تحدثّ لقراء ‘القدس العربي’ عن طفولته القاسية، وعن طقوس الذات المبدعة، وعن حياته في الشعر، وعن الشعر في الحياة، ، وكان حصيلة الحوار ما يلي:-
* من هو راشد عيسى؟
*أنا ابن المهاجر وسليل الشتات وصديق الريح وسادن الرحيل، أبي بدويّ واجه الدنيا بلا أهل، تنقل بين مهن الرعي والزراعة والبناء حتى لحظة موته دون أن يستغني عن الخنجر على جنبه، وعن الناي في يده اليسرى. ولدتني أمي على ظهر صخرة عند السفح الغربي من الجبل الشمالي في نابلس، حين كانت تجمع مع أبي الحطب والزعتر كأي أسرة فلسطينية مهجّرة وقد ذكرت ذلك في مقابلات عديدة- ودونته شعراً في قصيدة حفيد الجن الأزرق في ديواني حفيد الجن. عشت طفولتي وحيد والديّ، الأب الرعوي والأم التي تقاتل الهواء بلا سبب .
كان ينبغي أن أكون أحد قطاع الطرق، لكن الموسيقى التي رضعتها من ناي أبي وعلاقتي الأسرية بالشجر والحيوان والطير والتراب والنار، وتنقل أسرتي بين مهاجر مختلفة، وعملي المبكر في صحراء الدهناء…كل ذلك أسقى بتلات الحرية في دمي، الحرية بمعناها الفطري، فتبرأت من الإحساس بالزمن، ومن عبودية المكان، ومن سلطة الأيدولوجيا والمبادىء، فأوقعتني صحراء الدهناء تحت سلطان الشعر مثلما تلد الكثبان الرملية الأفعى المجلجلة. وجدت في الفن عامة إجابة شافية عن سؤال الوجود. مارست الرياضة باحتراف، والغناء هواية متقدمة، والرسم، والزجل، لكن الشعر سرقني ودلّني عليّ حتى اقتنعت بأنه بيتي وهويتي وزماني وطريقي الوحيد إلى عشق الحياة والصّد عن العروض الدنيوية الأفاكة, الشعر سيرورتي نحو الجمال وصيرورتي الدائمة في البحث عن طفولات الحب وظلال الأحلام الهاربة .
* بعد إحدى عشرة مجموعة شعرية، حين تعيد قراءة ما كتبت، ماذا تكتشف؟
*بعد إحدى عشرة مجموعة شعرية بدأت عام 1984م عندما كنت أعمل في الصحافة السعودية، ما زلت أحاول أن أنهي القصيدة الأولى. وما زلت أكتشف بعد كل قصيدة أن الشعر سماوات أتسلقها بسلّم خشبي. وسأبقى أنظر إلى القصيدة على أنها تجريب مستمر، وحرث دائم في أرضين اللغة الخصبة. لن أشعر أنني كتبت القصيدة التي أريد. ملاعب اللغة الشعرية أوسع وأجمل مما يتصورها شاعر. وفضاءات الحلم الجريح تتسع باطراد هائل. الشعر جواّب المراحل، قفاز عن الأمكنة والتحولات، متجدّد، ساخر بأي كينونة جاهزة. اكتشفت أن الشعر عزائي وسلواني كلما تراكمت أرباحي الخاسرة بامتياز .
*ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة ؟ ماذا أعطاك الشعر؟
*لم يختلف إيماني بجدوى الشعر في أي مرحلة مررت بها، ولا أخاف عليه من سلطة أي فن آخر كالرواية مثلاً. لأن الشعر سيد الفنون جميعاً فيه الرسم و الموسيقى والسرد والشخوص والأحداث والخط. إنه المبدع الأول للفطرة التعبيرية الوجدانية، ليس كمثل انفعاله انفعال، وكلغته إيحاء و إيماء وترميز وتكنية.
أما ماذا أعطاني الشعر، أعترف بأنه أسهم بقوة في تحصين شخصيتي من الاستلاب على اختلاف أنماطه، فتح لي في بيت روحي شرفات تطل على حدائق فاتنة. جعلني ناسكاً خاشعاً في محاريب اللغة. كما أعترف أنه أعانني مادياً في تعليم أبنائي .
وما زال صديقي حين تهزمني الدمعة، أكسبني أصدقاء كثيرين من القراء وكان له دور بارز في صقل وجدانات عائلتي الأحد عشر. الشعر أعطاني نفسي التي كادت تدفن نفسها تحت لحاء زيتونة. ليس الشعر جزءاً من حياتي أبداً. إنه حياتي بكل تفاصيلها حتى في ساعة نومي. وأنا سعيد بهذا الوهم ما دام الكون كله معموراً بالوهم على حدّ قول مولانا جلال الدين الرومي .
* من وجهة نظركم، كشاعر وناقد، كيف يكون الشعر، وما هي وظيفته، وما هي القضية الرئيسية عند راشد عيسى؟
*الشعر ليس وصفة طبية، أو تعليمات إجرائية لصنع كعكة الجزر، هو أشبه بانبجاس ينبوع من بطن صخرة شاهقة، هو ثورة اللغة على أخلاقها. هو انفعال الاصابع حدَّ البكاء. هو لحظة احتجاج الوردة على رائحتها ولونها وشكلها. ليس للشعر وظيفة اجتماعية ومهام أخلاقية، ليس غرض النهر أن يسقي الزرع ويخصب الأراضي البور وكذلك الشعر إنه ابن الجميل وليس ابن النافع، والجمال خير بالضرورة، ولأنه ابن الانفعال الانساني الجارح فمن البدهي أن تتعالق ظلاله وفضاءاته مع مقاصد الواقع وحاجاته تلقائياً وليس قصدياً. النحلة تصنع العسل لنفسها ولا تقصد به الدواء والغذاء وكذلك الشعر. ولذلك فإن قضيتي الأساسية في شعري هي الحرية والتلذذ بكذبة الدنيا وبوفاء الموت وخيانة الزمن والعيش في الزمن الطفولي الدائم والحنين إلى حبيبتي التي لن تتحقق. الوجود كله قصيدة صوفية. أميل جداً إلى الاستمتاع بأنوثة الحياة ضد ذكورة الموت وسلطة العقل.
*في قصائدك نَفَسٌ ملحمي، وأجواء درامية، تتداخل فيها الأصوات، وتتعدد مستويات الدلالة، ونلحظ فيها موسيقى عالية. في ضوء ذلك، كيف تكتب، وكيف تفهم القصيدة ؟
*شكلانية القصيدة تنبني تلقائياً حسب طبيعة الانفعال واتجاه الرؤيا، أغلب شعري يحمل نفساً درامياً لأني أحسب بالاطمئنان بأن الشعر ملهاة مأساوية أو مأساة ملهاوية على السواء، وهو بتعبير آخر ابن شرعي ملخص للتراجيديا الكوميدية. في ديواني حفيد الجن مثل هذا النمط وفي قصيدة حوار مع الحرية أو قصيدة أسئلة الحنين. وفي الوقت نفسه ثمة مجموعة شعرية كاملة هي قصائد قصيرة جداً أعني مجموعة ‘يرقات’. أما مسألة الموسيقى في قصائدي فهي ظاهرة تتعلق بأرومة ذاتي، فالايقاعات تتداول حواسي كلها منذ طفولتي المبكرة. لا أكتب الشعر الموزون تحت وطأة الضرورة والتقليد الفني بل تحت سلطان الترنيم فأنا من سلالة الناي والربابة وشهقات الينابيع بأصداء الجبال وحفيف السنابل وفحيح الافاعي. كينونتي الرعوية تأنس لجرس الكبش، والشعر في جوهريته الأولى أغاني رعاة وليس تقارير وصفية باردة. وبالضرورة أيضاً أراني لا أحب ضجيج الموسيقى بالشعر، لأن ضجيج الايقاع افتعال في حين أن تنغيم الهمس انفعال. ومع ذلك فقد تعلو الموسيقى في قصيدة كصراخ ثكلى على ولدها، أو كصراخ طفل على أمه لحظة موتها. لا شك أن الموقف الشعوري في القصيدة هو الذي يتحكم بالايقاع الداخلي أو الخارجي للقصيدة. ولعل أقرب معادلة لوصف طبيعة الموسيقى بالشعر الجيد هو قول ابن الرومي في وصف مغنية:
تتغنى كأنها لا تغني ………… في سكون الأوصال وهي تجيد
*نحن أبناء الرحيل لنا وطنٌ وأشجارٌ دافئة، ولنا وراء أشتاتنا مدن وأرصفة، تُرى، ما الذي يمكن أن تقوله اليوم وأنت ترى في غابة النار أشجاراً مشتعلة، ذات أضواء سوداء تلهب أجسادنا ؟
*كأنك هنا تلمح إلى الشعر السياسي أو إلى ضرورة شعر المقاومة. أعتقد أن مثل هذا الشعر الملتزم يكثر في المنعطفات التاريخية للشعوب ويتخذ وظيفة دفاعية واضحة. ولكني لا أستطيع قبوله بعيداً عن جماليات الشعر الصافي، فإذا اضمحلت فيه الشعرية أصبح خطاباً آيلاً للتلاشي بعد هدأة المرحلة وربما يُنسى. أما إذا اغتنى بالسجايا الإبداعية فإنه سيخلد. لا يخلّد الشعر مناسبته إنما جمال إبداعه، لأن الشعر فن في الأصل وليس مصلحاً اجتماعياً. لم ينتبه الاسرائيليون الى خطورة شعر درويش إلا بعد أن استشعروا خطورة الجمال الفني في شعره مع أن دواوينه الأولى كانت أخصب بالرفض والاحتجاج وأنماط المقاومة الشعرية. ينبغي للآلام الكبيرة أن تصنع شعراء عظاماً. سحر الشعر وخلوده يتأتيان من عبقرية صدقه الفني وليس من عظمة المناسبة.
*ما هي حدود الايديولوجيا والإبداع.. وأين تكمن الخيوط الفارقة بين جمالية النص الشعري وأخلاقياته، بمعنى آخر ما هو الالتزام عند راشد عيسى؟
*الأيديولوجيا فكر ومبدأ ومذهب. والشعر الخالد هو الذي يجعل من العقل قلباً، كثير من الشعر الذي تنتابه الذهنية الأيديولوجية يكون نوعاً من السيراميك، لا يعيش طويلاً. قلت في مقدمة ديواني ‘يرقات’ الشعر دمعة الفلسفة. لابدَّ للشعر العظيم من شجن فلسفي وليس فكراً فلسفياً جاهزاً. الشعر خطاب انفعالي ليس محكوماً للفاعلية العقلانية المؤدلجة. والشاعر الفائق هو الذي يمارس حريته الشعورية الشعرية من غير رقابة أيدولوجية تحوّل القصيدة الى شعارات مذهبية، ذلك يتنافى مع طبيعة الشعر التي لا تقبل الاقفال ولا سجون الأفكار والمعتقدات. الشعر صهيل خيل برية مفزوعة و ليس سرب حمير يحمل حجارة لبناء عمارة .
*تقف قصيدتكم بين استخدام الخطاب اليومي المألوف والمصطبغ بالروح الشعبي المحلي، الموقف السياسي، أو صوت الشاعر المتمرد، ومن الملاحظ أن الصورة لديكم مكثفة وتهكمية وشديدة الإتصال بالكاريكاتير. كيف انتهيتم إلى هذه الصياغة الشعرية؟
*انطلاقاً من إيماني بأن التعبير الساخر إذا كان منطوياً على صياغة مبدعة فإنه وسيط ناجح للتعبير عن الموقف الانساني الجاد والمأزوم وليس هدف السخرية الإضحاك بل البكاء، وتلك ضدية معروفة. ومن ناحية أخرى فإن في سجيتي الاولى نزوعا عارماً نحو التهكم بأكاذيب الدنيا أو نحو السخرية المؤلمة من تفاصيل طفولتي.كل صورة شعرية متقدمة هي نوع من الكاريكاتير سواء أدت الى التبسم أو الى الحزن أو الى كليهما معاً. لابد من ضحك كالبكاء أمام أخلاق الواقع وهزائم الأحلام وخسائر العقول. واللغة الشعرية تمتلك دهاء واسعاً في التحكم بأسلوب الشاعر في صياغته الفنية لموقفه النفسي .
*ما رأيكم بعلاقة الشاعر بالسلطة؟
*الشعر كائن بري بامتياز وله سلطته الجمالية المستقلة التي لا يمكن لسلطة ما ان تحتويه الا برغبته. بعض الشعراء من أنصاف المواهب- يتكسبون بأشعارهم من سلطة ما فيربحون مادياً ويخسرون فنياً. القليل منهم كالمتنبي ومحمود درويش اندغموا بالسلطة فربحوا فنياً ومادياً وذلك استثناء، لأن قدراتهم الابداعية كانت اكبر من مطامحهم الدنيوية. ثمة شعراء كبار كانوا متماهين مع السلطات كألفرد تينسون وأحمد شوقي أيضاً فربحوا ألقاباً كبيرة. قلة من الشعراء هم الذين يستطيعون المواءمة بين خدمة السلطة وخدمة فن الشعر. على أية حال ينبغي أن لا نغفل أن طبيعة الشعر نهضوية متحركة باتجاه الحلم الأصعب دائما، من هنا نجد عدداً كبيراً من الشعراء الموهوبين ينأون بقصائدهم عن خطاب السلطة زهداً بالدنيا واخلاصاً لحرية الشعر وربما لاختلاف موقف الشعر عن موقف السلطة. الشاعر غير مأمون والسلطة غير مأمونة. ولنا عبرة في حكاية المتنبي مع كافور الاخشيدي.
*بعيداً عن الشعر؟ كيف تراقب الوضع العربي الراهن؟ وما هو دور المثقف العربيّ في التغيرات الجذريّة الحاليّة ؟ وكيف تقيمون الواقع السياسي العربي الراهن؟
*الوضع العربي الراهن مأزوم، فلا السياسيون قادرون على انجاز تقدم ما، ولا المثقفون قادرون على تطويع الرؤى السياسية الحاكمة، الشعوب هي التي تقترح الان من غير تخطيط مدروس. في ألمانيا مثلا حقق الحزب الحاكم انتصاراته بمبدأ القوة الذي نادى بها المثقفون كنيتشه مثلاً. اذا تلاقت آمال المثقفين مع برامج الحكومات فذلك مثالية عبقرية، وهنا نقف أمام الحتمية الجدلية المعروفة: من يطوع من؟ ثقافة السلطة أم سلطة الثقافة؟ الواقع السياسي العربي حزين ومتشرذم بين ما يريد أن يفعل وما يراد له أن يفعل. لا بد من مخاض طويل قد يستغرق عشر سنوات أخرى من الألم حتى تثق السياسة بنوايا الثقافة لأن المثقفين أنفسهم مشتتو المآرب والمرامات.
*برأيك، ما هو أثر شعرك خارج الحدود؟ وهل تعتقد أنك قمت بواجبك في هذا المجال؟ وما تقديرك لتأثير الترجمة على المبدع ؟
*لا يستطيع شاعر أن يحصر أثر شعره خارج حدود بلده، لم أفكر شخصياً بذلك ولن أفكر. أنا متورط مع ربة الشعر عشقاً صوفياً دون أهداف. ولكني سررت بالطبيعة الطفولية للشاعر حينما قرأ قصائدي ولا سيما القصائد المترجمة عدد من الشعراء الكبار في اليونان والارجنتين وأمريكا فكان لها صدى طيب ومراسلات ودراسات. ومن حقي أن أبتهج أن عدداً من قصائدي حظي بالترجمة الى عدد من اللغات، وأنني على المستوى العربي أتلقى دعوات مستمرة للمشاركة في المهرجانات الشعرية العربية الكبيرة، وأن مجموعة من الرسائل الجامعية قد قدمت في شعري وأن عدداً من البحوث العلمية المتقدمة أنجزها باحثون متميزون في اتجاهات شعري وبناه الفنية، ومع كل ذلك ليس من هدف حقيقي لي من الشعر سوى كتابة قصائد أتجاوز بها منجزي السابق. أعيش مع اللغة العربية حالة عشق عميقة مستمرة. لكنه من الانصاف أيضاً أن يعمل أصحاب القرار الثقافي والسياسي في أي بلد على إعطاء المبدعين حقوقهم من المكانات الابداعية التي يستحقونها. أليس من المحزن أن نفتقد بالاردن مثلاُ ما يمكن أن نسميه صناعة النجم الأردني؟ في كل بلاد الدنيا ثمة خطط وطنية وآلية تسويق للمبدعين الكبار ليس من قبيل الشخصنة والمكاسب العابرة إنما من قبيل أن الأوطان العظيمة تنجب أدباء عظماء. مر على بريطانيا عشرات الرؤساء وظل شكسبير خالداً في الذاكرة العالمية. فالاهتمام بحضارة الكلمة إنما هو اهتمام بالمكانة الحضارية للبلد. من أسرار إعجاب اوروبا بالشرق فتنة الشعر العربي، وفتنة ألف ليلة وليلة. نحن نصدر لهم المواد الثقافية الخام وهم يعيدونها لنا مشتقات مزعومة من صناعتهم تماماً كما يحدث مع تصدير النفط العربي الخام. للأسف أيضا أن التنمية الثقافية لجميع أنماط الفنون والاداب هي تنمية مؤجلة ومحذور منها. الشعر حضارة عالمية، وتعبير كوني أكبر من كل الحدود الضيقة، إنه كالايمان والحب والطفولة، ولكن السياسيين يخافون من الكلمة المشمسة.
*بوصفك شاعراً ثمانينياً، كيف تفردّتَ من بين أقرانك في الخوض في مضمار القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة؟ وبصراحة شديدة، ما رأيك بقصيدة النثر؟! وهل صحيح أن ثمّة نفورا وعدم تواصل مع قصيدة النثر.ما ردّك ؟ وماذا عن موقفكم من الحرب الدائرة ضد قصيدة النثر منذ سنوات؟
*ما زلت من المعتقدين بأن شكل القصيدة حرية هندسية دائمة. قصيدة شعر الشطرين إرث طويل تعودته الذائقة العربية، ومع أنه انحصر نسبياً في ما بعد السبعينات حتى عام 2000 تقريباً إلا أن ثمة جيلاً من الشعراء الشباب يكتبون قصيدة البحر بجمالية عالية وملامح ابداعية ربما تفوق مثيلتها في شعر التفعيلة ولا سيما في مجال الصورة الفنية الغريبة واللغة اللاذعة شديدة الايحاء. شخصياً لا أخطط لشكل القصيدة قبل البدء بها، إنما انصاع لاتجاهات الرؤيا ومنابع الانفعال فيأخذني أحدهما الى بنية مقترحة أما لشعر الشطرين وأما لشعر التفعيلة واحياناً أقدم القصيدة بين تشكيلين تفعيلي وعمودي معاً كقصيدة أسئلة الحنين، وحوار مع الحرية. لكل شكل طبيعته الفنية وفضاءاته، غير اني اتصور أن القصيدة العمودية الناجحة أكثر صعوبة من قصيدة التفعيلة، لأن شروطها المعاصرة أصعب، أرجو الانتباه إلى أنني لا أعني القصيدة المنبرية ذات الضجيج العالي والتقريرية والخطابية، إنما اقصد القصيدة الهامسة المحلقة في فضائها الصوفي وتجلياتها الرمزية. الشعر الصافي يمكن أن يكون في شعر الشطرين أو في شعر التفعيلة. من قال أن شعر المتنبي قديم ؟ أو كلاسيكي ؟ الشعر الخالد حداثي على مر المراحل و العصور.
*كل الشعراء الرواد كتبوا شعر شطرين وتفعيلة. أما قصيدة النثر فقد قلت فيها الكثير، فأوجز أنها مصطلح ما زال دون شرعية يزاحم على استحياء والسبب هو ندرة الجيد العظيم منها، الأمر الذي يجعل الذائقة المبدعة تنفر منها في حين يستسيغها الشباب من أرباع المواهب فتقع في النمطية والفهاهة والميوعة فلا يقبلها التجنيس. لو كثر كتّابها من مثل محمد الماغوط الذي حقق نقلة نوعية باسلة في كتابتها لنالت استحقاق الحضور الابداعي منذ عشرين سنة. قلة قليلة من كتابها من ينتبهون الى شروطها من الصور العظيمة واللغة المدهشة، لكن السائد منها تجتاحها التعمية والتنميط و التقليد والبرودة التعبيرية .
*ما يميز مجموعاتك الشعرية الصادرة مؤخراً، ديوان ‘جبرياء’ وديوان ‘حتى لو’ هو انحيازها للقصيدة العمودية على حساب قصيدة التفعيلة، فما هو السبب وراء ذلك؟
*كما قلت قبل قليل لست منحازا لشكل شعري معين، غير اني في مجال شعر الشطرين قدمت قصائد أريد أن اثبت فيها لنفسي أن شعر الشطرين يستطيع استيعاب فضاء الرمز عبر لغة نشطة ورؤى تتماس مع ما هو اسئلة وجودية وتجليات عرفانية. لذلك جميع قصائد ‘جبرياء’ عمودية عدا القصيدة الطويلة الأولى. أما ديوان ‘حتى لو’ فهو منوع بين العمودي والتفعيلي والقصائد القصيرة من هذين النمطين. وأصارحك أنني شعرت بسعادة كبيرة حينما فاز ‘جبرياء’ بجائزة سعيد فياض للابداع الشعري في لبنان، طبعاً ليس للقيمة المادية بل لأنه فاز على عشرات المجموعات الشعرية من شعر التفعيلة، وبات لدي يقين بأن الشعر الجميل كالمرأة الجميلة سواء إن لبست ثوبا بدوياً او بلوزة وتنورة، وكالخمر الجيد لايهمه الاناء الذي يوضع فيه.
*ما هو المعوق الأساسي في أن يكون للمثقف دور مؤثر على حركة الشارع والناس والحياة؟
*هذا سؤال يتعلق بوظيفة الشعر. لست من القائلين بأن للشعر وظيفة اصلاحية أو اخلاقية أو اجتماعية أو وطنية بالضرورة. وظيفة الشعر جمالية خالصة لا غاية للشعر خارج حريته. مثل الحصان الجميل خلق أصلا للزينة والاستمتاع، وإذا حدث أن استعمل للركوب ولاغراض اخرى فذلك اكراه جائز لكنه ليس ضرورةً وهدفاً. يحدث أن يشارك الشعر في المنعطفات السياسية والحروب حين تتعرض الأمم لانهيارات وخسائر لكنها مشاركة مؤقتة. هل لي أن أسأل كما سأل كثيرون غيري لماذا لم يكن لشعر درويش في الشهيد محمد الدرة أي أثر ابداعي؟ الشعر الوظيفي على الأغلب ينتهي فور انتهاء الحالة التي قيل فيها تماماً مثل قصائد المناسبات. لذلك كتابة الشعر الوظيفي مغامرة يخشى أن يفقد بها تجلياته الفنية بسبب جوهرية الفكرة الاجتماعية. ثمة حذر كبير من شعر المناسبات.
*حصلت بعض قصائدكم وأعمالكم الشعرية على العديد من الجوائز العربية والمحلية، وهذا يُعدُّ إنجازاً مهماً، فما هو الأثر الذي تركته هذه الجوائز في نفس راشد عيسى ؟
*كل شاعر يحب أن يفوز شعره بجوائز لائقة وتلك طبيعة وجدانية تستدعيها فطرة الانسان. لأن أي فوز يعني بالضرورة تميزاً ما وهذا التميز هو حافز للنظر في التجربة وإعادة تقييمها، وحافز للتشوف الابداعي المستقبلي. القيمة المادية سرعان ما تذهب وتبقى السمعة أو الشهرة وهي فضاء مراد عند كل شاعر. الجائزة تكرس اسم الشاعر من جهة وتحمله مسؤولية فنية كبيرة ليحافظ على مستواه أو يتخطاه. ثلاثة أرباع الشعر العربي القديم في العصرين الأموي والعباسي اشتهر بسبب عطايا الامراء. يجب ان يرافق الشعر الجيد اعلان جيد. والجوائز نوع من انواع الاعلام الأدبي. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى أن يموت شاعر عظيم دون أن ينال جائزة واحدة ذلك لاينقص من أهميته الابداعية. الجوائز ليست شرطاً ولا دليلاً قاطعاً على جودة الشعر، فكثير من الجوائز تكون ‘مفبركة’ وموضوعة مسبقا لأشخاص معينين.
قلة من الجوائز العربية جديرة بالاحترام أتصور أن أجمل الجوائز هي التي ينالها الشاعر من بلد غير بلده . أما في بلده فتكون الجائزة أو يجب أن تكون- نوعاً من التكريم.
*راشد عيسى، بصراحة، من وجهة نظرك كشاعر وناقد، هل أنصفك النقد ؟ وكيف ترى النقد الأردني اليوم ؟ وماذا يقدم النقد للأدب؟ وما هو تقويمك للنقود التي كُتبتْ عن تجربتك الشعرية التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود ؟ وهل استطاع النقد العربي أداء مهمته في توطيد العلاقة بين الشاعر والجمهور؟
*مسألة أن ينصف النقد تجربتي الشعرية غير واردة في حسباني وأنا حيّ، لكني أتوقع الانصاف بعد رحيلي، كثيرون هم النقاد المستعدون لانصافي بعد موتي، وكثيرة هي الجهات التي تنوي تكريمي بعد موتي. ما أطيب لذة الظلم!! كل شاعر بالضرورة يسره أن يقع شعره تحت المنظار النقدي لكن الاشكالية تقع في أن نقاد الشعر محلياً أعني في الاردن قليلون جداً، والقلة الموجودة جزء منها منشغل بالبحوث الاكاديمية، والجزء الآخر منشغل بالنقد الثقافي. الخطوة الأولى ينبغي أن تكون من وزارة الثقافة وجمعية النقاد الأردنيين ورابطة الكتاب. تأمل معي ألا ترى النقد مهموماً بالرواية؟ لا يوجد عندنا مشاريع وبرامج للنقد الأدبي. أغلب الأفعال النقدية فردانية ارتجالية منها ما هو براجماتي ومنها ما هو عشوائي ضحل. ومع كل ذلك أعتز بما كتبه في شعري عبدالقادر القط وأحمد كمال زكي من مصر، وضياء خضير ومحمد صابر عبيد من العراق، ومحمد صالح الشنطي وسامح الرواشدة وسهى فتحي وعماد الضمور ومحمد سلام جميعان. ثمة أيضاً بحوث علمية أكاديمية قدمها مجموعة من الدارسين حول ظواهر إبداعية في تجربتي. على العموم لم أنشغل قط بهذه المسألة، فما يعنيني هو ماذا سأكتب من شعر يتجاوز منجزي السابق. سأبقى أعيش متعة التجريب فهي نصيبي الحقيقي من فتنة الشعر .
*حققت روايتك الوحيدة ‘مفتاح الباب المخلوع′ ذيوعاً فنياً واسعاً.. وقد حار النقاد بتجنيسها أهي رواية أم سيرة ذاتية علماً بأن ديوانك(حفيد الجن) سيرة ذاتية شعرية، ما مقاصدك من كتابة هذه الرواية؟
*قد يكون الأديب شاعراً أو روائياً أو مسرحياً أو قاصاً، ولكن ذلك لا يحول دون أن يجرّب الأديب حقلاً آخر، فالكلمة المبدعة أكبر من أي إناء أدبي. وللحق أردت في هذه الرواية أن أكتب سيرة ذاتية لمرحلة طفولتي فقط، فوجدتني تلقائياً أكتبها بأسلوب روائي جديد يُسمى (auto fiction)، لم يغادرني الشاعر في أثناء كتابتها ولم يغادرني التخييل اللغوي الذي اعتدت عليه. في هذه الرواية مارست اللعب الفني بالأفكار والكلمات والإيحاءات، كنت أكتب بحرية نهر يبحث عن مجراه لا ليصبّ فيه بل ليتجاوزه.
*في هذه الرواية تفصيل لموضوعات كنت كتبتها شعراً كمسألة حضور الجن في حياتي، وحضور مجموعة كبيرة من كائنات الطبيعة لعبت دور البطولة في طفولتي كالديك والقنفذ والخلد ودودة القزّ والصقر والأفعى والنمل والتيس وشباك غرفتنا وحذائي المسروق.
بعد صدور الرواية وتزايد كتابات النقاد تأكدت أن العمل الأدبي الناجح ليس مهماً لموضوعه وإنما لأسلوب عرضه ولبنائه الفني، وبالمجمل فإن الرواية سيرة طفل رعوي عذبته المنافي والهجرات فصار رمزاً لسيرة الجرح الفلسطيني دون أن أذكر اسم فلسطين في العمل. الطفل الذي كان مثل نبات النجيل يطلع في كل الظروف الصعبة فيتحول من بائع تمرية إلى أستاذ اكاديمي، في هذه الرواية قلق وطني ووجودي وعذاب إنساني رحيب بأسلوب ساخر على الأغلب يدّعي التساهي والبراءة وهو ينوي المكر والإيحاء. فمفتاح الباب المخلوع أنا ذلك الطفل المشرّد ابن الجنية، والباب المخلوع هو الحياة نفسها. فالمفتاح يبحث عن باب والباب يبحث عن بيت والبيت يبحث عن أرض.
*صدر لك في مجال الكتابة للأطفال مجموعة من الدواوين الشعرية، ومنها ديوان ‘سلسلة أناشيد هيا إلى العربية’ و’الديك القوي’ و’يا وطن’ و’إلى الغد الجميل’ و’هيا تشدو’ و’رموز أردنية’، ولك العديد من الأناشيد والقصائد في المناهج والكتب المدرسية في الأردن. كيف ترى واقع الحال بالنسبة لأدب الأطفال في الأردن؟ ومن وجهة نظرك ما أهمية دور الأدب الموجه للأطفال في التوعية والثقافة الوطنية ؟
*في الأردن مجتهدون كثر في الكتابة للأطفال، لكن النقص الواضح هو في قصور عدد كبير من كتاب أدب الطفل عن وعي التشكيل الجمالي والقيم الفنية في هذا الأدب. أدب الأطفال ليس حكاية تعليمية ومواعظ و تعليمات، إنه متعة الخيال ولذة اللغة وجمال الغرائب في الأحداث. لدينا في الوقت نفسه أدباء فازوا بجوائز عربية مرموقة. ولدينا من يكتب من أجل الكسب المادي بالدرجة الأولى. أدب الطفل صار تجارة رائجة في ظل غياب النقد المتخصص.
*يقول النفّري:- ‘الحرف لا يعبّر عن نفسه، فكيف يعبّرُ عنّي’، ترُى هل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟
*الإنسان بطبيعته جديلة متناقضات، والشاعر تحديداً كائن متعدد المنازع حتى لو عرف باتجاه ما. وكم من شاعر أراد أن يكتب قصيدة في رؤيا معينة فكتب شيئاً آخر. اللغة ليست أوعية ثابتة الاحجام والمرادات، كل كلمة هي قنبلة عنقودية من الدلالات في السياقات المختلفة. وبالاجمال ما كتبته من شعر حتى الساعة إنما هو اقتراح مؤقت لوقفتي المندهشة أمام باب الحياة، عشت مع سلطان اللغة وانوثتها وعذوبتها سنين طويلة حتى خلتها مسوغ بقائي حياً حتى الان. بعد موتي يكون القول الفصل بأن حروفي الشعرية كانت ضالة أسيانة من عجزها عن نقل مكامن نفسي الى الورق وذلك شرف اتمناه. للحروف أخلاق ونفوس وأرواح وطبائع لا يستطيع البشر الامساك بها او تطويعها لأن الحروف لم توجد لتكون حقائق بل لتظل أوهاماً. مهمة الحروف هي الايهام والترميز فكيف سيطمئن شاعر الى انه أسال نفسه على سطح الورقة بكامل أحزانها أو مسراتها. الكلمات أشجار وحيوانات وطيور وحجارة الشاعر يصطاف بينها مثل سائح ذاهل في غابة غامضة ذات إيحاء جميل لذيذ.
*الآن بعد كل هذا الذي تحقق أين أنت، وماذا عن تصورك للمستقبل، هل أنت الآن في حالة صمت أم في حالة كتابة؟ وبماذا تختتم هذا الحوار ؟
*لا تصوّر عندي لأي مستقبل. مستقبلي هو هذه اللحظة التي أجيبك فيها عن هذه الأسئلة. غير أني في حالة تواصل مع ربة الشعر، لا معنى لحياتي خارج تهمة الشعر، ولا معنى لأي حلم بعيداً عن حبيبتي القصيدة التي أعنقدها فتعصرني .
أختتم هذا الحوار بشكراني الموفور لك أيها الشاعر الغيور على حدائق الشعر والشعراء. وأحمد لك ثقتك، وصبرك على أمثالنا المستوهمين من حراثي البحار ومعبئي النجوم في سلال القصب.
القدس العربي