الأزمة في القرم: ذاكرة انتقائية ونفي

تشيلو روزنبرغ
في ضوء الحرب بين روسيا وأوكرانيا على السيطرة في المنطقة والصراع الدبلوماسي الذي تديره دول غرب اوروبا والولايات المتحدة ضد بوتين، يجدر القيام ببعض الترتيب للذاكرة الجماعية لنا كلنا. لشدة الاسف، ليس في جولة الحرب الحالية أي جديد بل ان كل شيء معروف مسبقا، بما في ذلك حتى النهاية المريرة. هذا ليس تشخيص حتمي جامد بل انعكاس لواقع يعود الى مئات السنين. لن نعنى بكل شيء إذ أن اليراع يقصر، غير أنه يجدر بنا أن نذكر على الاقل العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة وغرب اوروبا وبين الاتحاد السوفييتي السابق، واليوم روسيا.
معروف للجميع أن روسيا اجتاحت شبه جزيرة القرم، اجرت استفتاء شعبيا نتائجه كانت واضحة، وبوتين وقع على مرسوم لضم شبه الجزيرة الى الاتحاد الروسي. ومن المؤكد أن يسأل الكثير من القراء أنفسهم هل يحتمل أن توافق الولايات المتحدة والدول الغربية على خطوة وحشية واستعمارية من هذا النوع دون أن تحرك ساكنا، دون أن تبعث بجيش كي تساعد الاوكرانيين المؤيدين للغرب؟ الجواب هو نعم كبيرة. يتبين أن سيناريو كل الخطوات التي ذكرت أعلاه كتبت منذ زمن بعيد.
شباط 1945. المكان: يالطا، مدينة استجمام على شواطيء البحر الاسود تعود الى شبه جزيرة القرم. ستالين، روزفيلت، زعيم الولايات المتحدة، وبالطبع مستر تشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا، يجتمعون معا لهدف كل جوهره تقسيم اوروبا الى مناطق نفوذ حسب ذوق ومصالح الزعماء الثلاثة. لا شيء آخر. فقط الاراضي، فقط النفوذ، فقط تلبية المطامع التاريخية وفقط تحقيق الأنا.
اذا كان يسعى احد ما عن حق وحقيق أن يفحص جذر الشر في كل ما يحصل اليوم في اوكرانيا، في شبه جزيرة القرم، في جمهورية مولدافيا وفي اقليم ترنسنستريا، يجب أن يبدأ في مؤتمر يالطا الذي يشكل اشارة طريق في وهن الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا تجاه الجنون الامبريالي لستالين. ثمة رمزية مفزعة ومقرفة على حد سواء في الاحداث التي جعلت شبه جزيرة القرم تسقط مرة اخرى سد الطمع الروسي ومن جهة اخرى تجسد كم هو الملك عار.
يمكن الادعاء بان اوباما ضعيف، وان كامرون متردد واولند عاشق لعشيقته الجديدة وميركيل تسير بصعوبة بعد أن كسرت حوضها في اجازة التزلج. هذا نهج غير جدي على نحو ظاهر. في التاريخ تختبىء الاجوبة على ما يجري اليوم.
في مؤتمر يالطا باع روزفيلت وتشرتشل شرق اوروبا، ولا سيما غربي بولندا ودول البلطيق لستالين. لا زعيم الولايات المتحدة الذي كان مريضا على نحو ميؤوس منه، ولا تشرتشل كانا قادرين ان يقفا في وجه التهديد الروسي بتوسيع مناطق سيطرتها اكثر فأكثر. في اثناء المباحثات كانت الجيوش الروسية قد استكملت احتلال شرق اوروبا ولم يكن لمؤتمر يالطا اي معنى عملي. وقد أهان ستالين الزعيمين الغربيين الى أن وافقا، بشكل لا مفر منه، على كل مطالب ستالين. واليوم، الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا تستسلم لبوتين، وان كانت تحاول الاثبات بان في جعبتها ترسانة اقتصادية كفيلة من ناحيتها بان تجبر روسيا على التراجع عن فرض حكمها الدكتاتوري على شبه جزيرة القرم في ظل ضمها الكامل.
بوتين لن يستسلم. العكس هو الصحيح. هناك تخوف معقول جدا بان احداث القرم هي فقط بداية خطوة استراتيجية أوسع بكثير لفرض الحكم الروسي في اقليم ترنسنستريا وبتر جمهور مولدافيا. والاحداث قد تتدهور الى ما يتجاوز ذلك.
تبني الولايات المتحدة في بولندا وفي رومانيا منظومة دفاع جوي ضد روسيا في اساسها نصب الصواريخ. والاعمال، على الاقل في رومانيا، تتقدم بسرعة. ونقدر هنا بالحذر اللازم: روسيا لن تحتمل وجود صواريخ على حدودها تماما. وليس صدفة انهم في بولندا وفي رومانيا، قلقون جدا مما يحصل في اوكرانيا. فالبولنديون والرومانيون على حد سواء من شأنهم ان يجدوا أنفسهم في هجوم واسع من جانب الروس. صحيح أن بولندا ورومانيا عضوان في الناتو وميثاق المنظمة يلزم الدول الاعضا بمساعدة الدولة العضو التي تتعرض للعدوان غير أن للتاريخ مفاجآت عديدة.
ترى روسيا في بناء منظومة الدفاع الغربية استفزازا وخطرا على مصالحها. اذا لم يتغير الحكم في موسكو، فمن غير المعقول ان تسلم روسيا بذلك. يجدر قراءة الصحف البولندية والرومانية كي يتأكد المرء من أن ما قيل اعلاه ليس مدحوضا تماما. فالدولة الاكثر خوفا من الدولتين هو رومانيا إذ أن احداث القرم تجري حقا بجوار حدودها. بين رئيس الوزراء المؤيد لروسيا وبين الرئيس المؤيد للغرب توجد خلافات رأي شديدة بالنسبة للرد المناسب على الاحداث في اوكرانيا.
يحظر علينا أن نتعاطى مع الاحداث الحالية وكأنها منقطعة عن الماضي. من يعول على الذاكرة الانتقائية أو النفي بنية مبيتة من شأنه أن يخيب أمله بشدة.
معاريف/الموقع