النكبة الفلسطينية الحية

سيهدر الكثير من الحبر على الذكرى الرابعة والستين للنكبة، وهي فعلاً تسحق الكثير من المراجعات، وعلى كل المستويات، وبكل المعاني. لم تكن النكبة التي حلت بالفلسطينيين في العام 1948 مجرد خاسرة لمعركة في حرب، أو حتى خسارة لحرب تستدعي الاستسلام مع الحفاظ على وجود المجتمع على أرضه، فقد كان ما جرى على الأرض الفلسطينية من الاستثنائية، لدرجة أن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون نتيجة خسارتهم الصراع، ليس احتلال أرضهم فحسب، بل وتدمير مجتمعهم واقتلاعه وتهجيره إلى الشتات، وتحطيم جغرافيا الوجود المكاني والبشري لهذا الشعب، وبالتالي دخل الشعب المشتت في عدة أقطار عربية بعد النكبة في ما يشبه الغياب، ليس عن الحضور في الخريطة السياسية في المنطقة فحسب، بل وعن صورته التي عرفها عن نفسه خلال تاريخه أيضاً، الذي قُطِع بشكل حاد عن الاستمرار بالطريقة الطبيعية بفعل خارجي عن المجتمع ذاته. وبغياب الوطن الفلسطيني، لم يعد الشعب الفلسطيني منظوراً على الخريطة السياسية، وأصبح هناك قضية لشعب غائب تم اختصرها بمشكلة لاجئين ينطق باسمها العرب الآخرين.

لم يكن ما جرى على الأرض الفلسطينية قابلاً للتصديق من الفلسطينيين أنفسهم، وبقوا غير قادرين على التصديق كل العقود المنصرمة. واجه الفلسطينيون المشروع الصهيوني ذو الطبيعة غير المسبوقة، وهو السبب الرئيسي في هزيمتهم في ظل تقاطع هذا المشروع مع المعطيات الدولية والإقليمية، وليس بسبب ضعف المجتمع الفلسطيني وهشاشته كما ساد في بعض التحليلات. فهناك العديد من المجتمعات التي تعاني من هشاشة أكثر بما لا يقاس عن المجتمع الفلسطيني، بقيت صامدة وهي تعيش اليوم وستعيش إلى زمن طويل، ليس لأي سبب، بل فقط لأنها لم تتعرض إلى هجمة بشراسة الهجمة الصهيونية. إن استنتاج ضعف المجتمع جراء وقوع الهزيمة هو استنتاج متسرع، وهو أيضاً لا يفسر عودة هذا المجتمع إلى بناء علاقاته في الشتات على النموذج القائم في القرى التي تركها أصحابها، وهي علاقات حافظت إلى حد كبير على التماسك الاجتماعي الفلسطيني، وكانت الأساس الذي نمت في تفاعلاته التجربة الفلسطينية الحديثة على كل علاتها. ولأن المجتمعات المهددة تحتاج إلى ضمانات ما فوق اجتماعية غيبية كالآلهة والأساطير لتحافظ على ذاتها متماسكة، وفي حالة الفلسطينيين أعادوا إنتاج وطنهم كأسطورة مركزية في تجربتهم الحديثة رداً على التهديد الذي عانوا منه طوال العقود المنصرمة. وكان المتخيل الجمعي هو المُعبِّر عن علاقاتهم الاجتماعية القائمة بعيداً عن موقعها الأساس، وفي الوقت نفسه، هو الناظم المعياري لهذه العلاقات. وأصبح هذا المتخيل مجالاً لإعادة خلق الوطن وتأسيس علاقة بين تجمعات بشرية مشتتة، وبناء شعب فلسطينيي متجاوزاً للجغرافيا، ومؤسساً على أسطورة الوطن السليب القابل للاستعادة.

استطاع الشعب الفلسطيني إنتاج نفسه، بامتلاكه القدرة على إنتاج حقله المتخيل الخاص به وإيجاد موقع له في تاريخ المنطقة. ولذلك تظهر التجربة الفلسطينية باعتبارها تجربة صاغها الفلسطينيون عبر الزمان لا عبر المكان، بإيجاد روابط عبر الزمن الماضي وربطه في واقع الحال القائم، وإعادة إنتاج الهوية الشخصية والوطنية على هذا الرابط الزمني الموحِد.

شكلت هزيمة العام 1948 الحدث المؤسس للتجربة الفلسطينية الحديثة، فقد طبعت التاريخ الفلسطيني اللاحق وستبقى تطبعه بطابعها إلى زمن طويل، فقد بقي البشر وغابت الأرض التي ابتلعها المشروع الصهيوني، دون أن يقر الفلسطينيون بهذا الابتلاع، وما أن وقعت هذه الكارثة في حياة الفلسطينيين ووجدوا أنفسهم في المنافي «حتى صار الفلسطينيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم البدائل الحية عن بلادهم.» حسب تعبير الياس صنبر، ولكنهم لم يستسلموا هناك، حيث أعادوا ترتيب علاقتهم ليس بوطنهم وبلداتهم فحسب، بل أعادوا ترتيب علاقاتهم مع بعضهم البعض أيضاً، وإذا كان هذا لم يظهر إلى حيز الوجود الفعلي إلا بعد عقدين من الزمن إلا أنه بدء مع إدراك الفلسطينيين أنهم باتوا يعيشون في المنافي والمسألة ليست مسألة أيام. فلا شك إن النكبة التي حلت بالفلسطينيين في العام 1948 والصدمة التي أصابتهم جراء تدمير مجتمعهم وما تلا ذلك من تشريدهم وإخراجهم من ديارهم وانتشارهم في أرجاء المعمورة، كل ذلك عزز إدراك الفلسطينيين لذواتهم وخلق في ما بينهم رابطة نفسانية وشعوراً قوياً بالهوية والوحدة، وبالرعاية المتبادلة والمسؤولية بعضهم تجاه بعض. لقد راهنت الحركة الصهيونية على أن اقتلاع الفلسطينيين وإرسالهم إلى ما وراء حدود الدولة التي تريد أن تبنيها، يجعلهم مع الوقت يندمجون في البلدان التي استضافتهم، وتنحل هويتهم ويكفون عن كونهم ينتمون إلى المكان الذي طردوا منه، وعلى القاعدة التي تقول «الكبار سيموتون والصغار سينسون». ولكن التجربة كانت على العكس من التوقعات الصهيونية، فلم يختفِ الفلسطينيون ولم يندمجوا في البلدان المضيفة، وبدل أن تعمل النكبة على دفعهم إلى الدخول إلى مجتمعات أخرى تحجب هزيمتهم، أدمجوا هزيمتهم وحولوها إلى مكِّون من مكونات هويتهم، التي استعادوا من خلالها بعد عقدين من الهزيمة وجودهم السياسي الذي يطالب بحقوقهم المشروعة في وطنهم. فقد حافظ الفلسطينيون على هويتهم حتى في تلك الفترة التي دخلوا فيها في الغياب، فالهوية الفلسطينية لم تتلاش في أواخر الأربعينات لتعود إلى الظهور في الستينات مع تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية. فالذي عاد إلى الظهور ممثلاً في منظمة التحرير هو الحقل السياسي الوطني المرتبط دائماً بمشروع كياني ويحتاج في العادة إلى إنتاج الوطنية. على حد تعبير جميل هلال. ولم يكن الحفاظ على الهوية وحده الفاعل على تكوين ما يمكن تسميته بـ«الوطنية الفلسطينية الحديثة»، فقد كانت إقامة دولة إسرائيل على أنقاض الوطن الفلسطيني عاملاً رئيسياً في تكوين هذه الوطنية، وكان وجود العدو مجسداً في دولة عدوانية وفرت حالة الإجماع عند الفلسطينيين على معاداة هذا «الكيان» الذي اغتصب أرضهم وحقوقهم وإدماجه في خلق نوع من الوحدة الفلسطينية. ولكن الحفاظ على الهوية وتوحيد إسرائيل المُقامة حديثاً لمشاعر الفلسطينيين، لم تجعل الوضع طبيعياً، فقد كانت التجربة الفلسطينية تُخاض في شروط خاصة واستثنائية، ورغم القدرة الفلسطينية على إعادة إنتاج الذات الوطنية الفلسطينية، فإن التجربة الفلسطينية لم تنجو من التشوهات التي أصابت التكوين الفلسطيني بحكم هذه الظروف التي عاشها كتجربة مترامية في الجغرافيا.

واليوم السؤال الغريب الذي يواجه الفلسطينيين الذين عادوا من محاولة الإلغاء الإسرائيلية، هل هم قادرون على تجاوز محاولة الإلغاء الذاتية القائمة في الأراضي الفلسطينية اليوم؟! إن الذكرى الرابعة والستين تفرض هذا السؤال على الجميع قوى وفصائل وأشخاص.