في ذكرى النكبة: ثقافة التاريخ ودرس السياسة

لعل أهم الدروس المستفادة، من واقعة النكبة، هو ذلك المتصل بخطئنا المتكرر، على مر التاريخ المعاصر، وهو ممارسة الخصومة في أحرج اللحظات، على النحو الذي تخرج الأطراف كلها بعده، خاسرة نادمة! ثلاثة تقديرات بريطانية، تداعت نزولاً، بخصوص فرصتنا في النجاة من النكبة في العام 1948. وقد واكبت تلك التقديرات، مراحل الانهيار، في سنوات تأثرنا الكارثي، بغياب "المجتمع السياسي" الفلسطيني الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي في معرض حديثه عن سيرورات الأمم. إن فقدان مثل هذا المجتمع، في بلادنا، في السنوات التي سبقت النكبة، هو الذي أفقدنا ضمانة الربط بين القاعدة الاجتماعية للحركة الوطنية وقياداتها. إن هذا المجتمع السياسي المفترض، تمثله نخبة يُفترض أن تجعل الشأن العام محور اهتمامها، وتثابر على تطبيق خطة تخدم أهداف الشعب الفلسطيني في الاستقلال والحرية! كان البريطانيون المتواطئون يتهيأون للرحيل. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1947 جاء التقدير البريطاني الأول، في المراسلات التي ظهرت لاحقاً كوثائق؛ أن اليهود لن يكونوا قادرين على مجابهة الفلسطينيين لمدة طويلة. لكن التقدير الثاني في شباط (فبراير) 1948 كان يؤكد على أن صمود اليهود، سيكون محتملاً، على الأقل في بعض المناطق المخصصة لهم في خارطة مشروع التقسيم. أما التقدير الثالث في أواخر نيسان (ابريل) من السنة ذاتها، فقد جاء بمثابة قراءة لواقع بات مغايراً:

حقق اليهود سيطرة تامة على المناطق المقررة لهم في خطة التقسيم، ولديهم فيها خدمات عامة، واستعداداتهم جارية على قدم وساق، لإقامة دولتهم، بمراكمة عناصرها، أما الإدارات العربية الفلسطينية فقد غدت معزولة ودون صلاحيات مركزية، والمعنويات متدنيّة، والقيادات السياسية والميدانية متنافرة، وخصوماتها تتعمق، وبات الأمل معقوداً على دخول الجيوش العربية!

* * *

 الأيام التي مرّت، بين كل تقدير بريطاني وآخر، للوضع على الأرض، ازدحمت بوقائع مفجعة، تقرر بأننا شاركنا بأنفسنا في صنع نكبتنا، وفي إلحاق الهزيمة وخيبة الأمل بشعبنا الذي كان وظل مستعداً للتضحية. فقد كانت أعداد المقاتلين الذين تم تجنيدهم وحشدهم وتهيئتهم للدفاع عن وطنهم، تعكس بضآلتها خيبة وفشل القيادات التي تواجدت على الأرض، على الرغم من ظهور رموز نضالية أبلت بلاء حسناً، كعبد القادر الحسيني وسواه، لكن الخصومات، بدل التنسيق والتعاون، هي التي ميزت العلاقة فيما بينها، فضلاً عن تواضع أعداد الشباب المقاتلين الذين تمكنت هذه القيادات من تجنيدهم. وكانت التشكيلات الفلسطينية الشبابية المقاتلة، موصولة بعائلات ووجهاء متعارضين. وعندما حاول الحسينيون، تشكيل قوة ضاربة منسجمة، بقيادة عبد القادر الحسيني، المؤهل وذو الخبرة العسكرية في الخارج، والمجرب كقائد عسكري في الثلاثينيات في لواء القدس؛ لم يتعد الرقم الخمسة آلاف مقاتل، بسبب غياب المجتمع السياسي المنسجم، والمتوافق على أهداف وخطط محددة. وكان الجيش الإنقاذي الذي شكلته جامعة الدول العربية، يتشكل من أربعة آلاف متطوع ضعيف التدريب أو عديمه (معظمهم من الشبان السوريين) وقد جاء على رأس ذلك الجيش، فوزي القاوقجي، الخبير العسكري السوري المثير للجدال، الذي كان أثناء تواجده في فلسطين، أثناء ثورة 36 قد دخل على خط الخصومات العائلية. فما حدث، هو أن ألقت خلافات قديمة بين الحاج أمين من الخارج (وتبعاً لذلك الحسينيون من الداخل) والقاوقجي، بظلالها على دور الأخير منذ اليوم الأول من دخوله مع قواته عبر جسر اللنبي. وبلغ الأمر أن أصدرت الهيئة العربية العليا بياناً يحذر من التعاون مع القاوقجي تحت طائلة العقاب. والقاوقجي بدوره، الذي ذهب الى مواطىء أقدامه، في الثلاثينيات في شمالي الضفة، حوصر في مناخ الخصومات. فمن جهة، ناصبه الملك عبد الله العداء لمشاركته في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العام 1941، وكذلك فعل الحاج أمين والحسينيين تالياً، لأن الحاج أمين يتهمه بأنه دق الاسافين بينه وبين صديقه رشيد عالي الكيلاني.

 والقوة ضئيلة العدد أصلاً، وبائسة التهيؤ والتدريب، والعنفوان العشائري قائم، والتشكيلات المتاحة للشعب الفلسطيني، على تواضع أعدادها لا تنسيق بينها (منظمة الفتوّة من بضع مئات، والنجادة في يافا وجوارها، أقل من ألفين وخمسمئة، وقوة عبد القادر الحسيني خمسة آلاف تضاءلت بعد استشهاده) و"حزب الاستقلال العربي" بقيادة عوني عبد الهادي ومحمد عزة دروزة، ذو طابع سياسي قومي، والساحة مسكونة بتعقيدات حالت دون تشكل المجتمع السياسي الوطني، الذي يتبنى خطة الدفاع عن فلسطين. أما قوات اليهود المنضوية تحت لواء "الهغناة" فقد حشدت 35 ألف مقاتل، منهم خمسة عشر ألفاً في الخدمة الكاملة، وعشرة آلاف في الخدمة الجزئية. الأولون مدربون، وكثيرون منهم خدموا في القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية، ولديهم خبرات قتالية كبيرة. وكان التنسيق عندهم تاماً. ونظموا أمورهم على مراحل، بدءاً من "الدفاع الفعّال" وانتهاءً بـ "الهجوم المنسّق". وكانت الطاقة البشرية النسائية الهودية مجندة في قطاعات المساعدة اللوجستية، بخلاف الحال على الجانب الفلسطيني.

أما الجيوش العربية، حين دخلت متأخرة، وفي منهجها التزام خطوط التقسيم لا تتجاوزها، وفي دواخلها تنقاضات، ومتأثرة بخصومات عربية، فلم تكن أفضل حالاً، وكان الاستثناء يتمثل في إيمان وبطولة العنصر العربي الذي خذلته الإمكانيات والسياسات! في ذكرى النكبة، يتوجب التأكيد على ضرورة إغناء الثقافة التاريخية المتعلقة بها. ففي التاريخ تكمن العبر، وتُستفاد الدروس. إن الغزاة الصهاينة، لم يهزموننا بقوتهم وبضعفنا، وإنما ببؤس بُنيتنا السياسية، وبالنكبويين الفلسطينيين والعرب، الذين حرموا الشعب الفلسطيني من العون الذي لو حصل عليه، بجزء يسير من مقدرات الأمة، عدة وإنساناً، لكان أكثر من كافٍ لمنع النكبة. وننوه هنا، الى أن إيمان العنصر العربي وشجاعته، في ذلك الخضم، وعلى الرغم من كل الرزايا القيادية، كاد أن يصل بنا الى النصر، بعد 15 آيار (مايو) 1948 لكن النكبويين الفلسطينيين، استكملوا مفاعيل الشقاق، بأشكال من الخيانات والتواطؤ، التي كان أبرزها، منح اليهود الهدنة الأولى، في الأسبوع الأخير من الشهر نفسه. وتؤكد مذكرات القادة اليهود، على أنه لولا تلك الهدنة، التي حصلوا عليها، لما كانت إسرائيل استمرت، على الأقل في مناطق خارج حدود التقسيم! يتوجب التنوية في الختام، الى أن درس الشقاق، هو سرّ الخيبة، سواء كان في الأمس أم اليوم. من هنا ينبغي أن تُستدعى الوقائع التاريخية، بتفصيلاتها، وأن يكون هناك سياقاً لإغناء ثقافة التاريخ، لتغتني وتتعمق ثقافة السياسة!