السلاح الفلسطيني في لبنان
ما جاء في حديث الرئيس محمود عباس لصحيفة "النهار" اللبنانية، عن السلاح الفلسطيني في لبنان، غير مسبوق في صراحته، وفي تعرضه للمحظور من الآراء. فمن حيث المبدأ، وفي التفصيل، لا حاجة لنا للسلاح في خارج المخيمات، أما سلاحنا في داخل المخيمات، فهو أيضاً غير شرعي من حيث المبدأ، لكنه وفق وقائع محددة سنأتي على ذكرها، ما زال حاضراً اضطراراً، تبعاًً لحيثات راهنة. وينتهي وجوب حضور السلاح، في حال انتهاء تلك الحيثيات، وتجاوز هذا الاضطرار! لنأخذ أسبابنا في القول بأن السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، غير لازم الحضور، من معسكر "حزب الله" قبل أن نأخذها من منطق سواه.
ففي أطروحة المقاومة، التي تنبثق عنها كل معادلات الحزب الداخلية في لبنان؛ لم يُسمح للفلسطيني، ولا لمجموعات من خارج طائفة الحزب أو حتى لمجموعات يسارية، ترغب في المقاومة؛ بحمل السلاح على خطوط التماس، أو امتشاقه كلما لاح الخطر على حدود لبنان. فالمقاومة في جنوب لبنان، يُراد لها أن تظل أيقونة الحزب وطائفته، لا يشاركهما طرف فيه. وعندما تم الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، تحت ضربات مقاومة الحزب، ظنت المجموعات الفلسطينية المقربة من النظام في دمشق، أن في مقدورها المشاركة في أمجاد لاحقة، فأعربت عن رغبتها في التقدم الى الجبهة، وأن تؤسس وجوداً مقاوماً، حتى ولو اقتصر هذا الوجود، على وضعية المرابطة الميدانية ليس أكثر. لكن رد "حزب الله" كان صريحاً وصارماً، يجزم بعدم السماح لأي طرف، بما سماه "العبث" في ساحة الجنوب.
ومنذ ذلك التاريخ، ظل التواجد الفلسطيني المسلح، خارج المخيمات وفي غير الجنوب، مقتصراً على مجموعات مقربة من دمشق. وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، لم يكن هناك من شفيع أصلاً، لتواجد مجموعة أحمد جبريل، في الناعمة (قضاء الشوف) إلا مشاركة جبريل، في منتصف السبعينيات، مع النظام السوري في حربه ضد الثورة الفلسطينية وضد الحركة الوطنية اللبنانية لصالح حلفاء إسرائيل آنذاك. لكن من بين أبعاد هذا التواجد الحالي، ليس هناك بُعداً واحداً، يتعلق بمقاومة إسرائيل. الأبعاد الأخرى، تدخل على خط المعادلات اللبنانية الداخلية، وفي حسبة مواطىء أقدام ونفوذ الحكم في دمشق، وفي قلب إشكاليات السلاح خارج إطار الدولة! اللبنانيون، بما تحمّلوه وقدموه عبر ما يزيد عن أربعة عقود، من من أرواح أبنائهم ومقدرات بلادهم وممتلكات مواطنيهم، يستحقون من الفلسطيني إسهاماً في تعزيز هيبة الدولة. فقد بدأ لبنان، في دفع ضريبة فلسطين، منذ كانون الثاني (ديسمبر) 1968 عندما هاجم المحتلون مطار بيروت ودمروا ثلاثة عشر طائرة مدنية للخطوط اللبنانية هي 75% من أسطولها، ثم توالى مسلسل الخسائر اللبنانية تأثراً بالنضال الفلسطيني.
اليوم، وعندما يكون سلاح "حزب الله" الذي في الجنوب وفي ضاحية بيروت، سبباً في فقدان الدولة لأحد أهم عناصر قوتها وأهم الشروط الدستورية لاقتدارها، وهو أن يمتلك فريق سواها، سلاحاً يمكن الاستئناس به للإيحاء بالقدره على ممارسة الإكراه، نيابة عن فريق، وليس نيابة عن المجتمع ولمصلحته وبالقانون؛ تصبح هذه الدولة ضعيفة في العموم، بل تصبح أضعف في مواجهة احتمالات أن يتسلح الآخرون. فما زال السجال جارياً، حول مشروعية امتلاك الحزب للسلاح.
وباتت الدولة مضغوطة بين إلحاح شرعيتين، إحداهما شرعية المقاومة، التي يسُميها فقهاء القانون "الشرعية الثورية" والثانية الشرعية الدستورية، التي لا تجيز لطرف من المجتمع، أن يمتلك سلاحاً غير سلاح الدولة. الشرعية الأولى، توجبها ظروف الغزو والاحتلال، وهي ظاهرة تاريخية وليست قانونية. وجوهر السجال، أن طرفاً يقول إن الغزو محتمل، وبالتالي يصبح امتلاك السلاح واجباً، وطرف آخر يقول، الغزو غير محتمل وأن هناك قوات دولية لمراقبة الهدنة، وأن الجيش وطني، وينبغي تعزيز قدراته لكي يتصدى هو لأي غزو يقع، لتكتمل للدولة شروطها الدستورية. لكن ما حدث عندما اجتاح "حزب الله" بالقوة العاصمة بيروت في العام 2008 في إطار مماحكات كان ينبغي أن تظل سياسية بحته؛ جعل الكثيرين يجزمون بأن فرضيّة المقاومة، ليست إلا غطاء نظرياً، لنوايا ممارسة الإكراه على الدولة وعلى المجتمع. وعلى أية حال يظل هذا الأمر شأناً لبنانياً. أما السلاح في داخل المخيمات، وهو الذي نتمنى أن لا نحتاج اليه وأن تنتفي مبررات امتلاكه، فإنه حاضر بسبب ظواهر موجودة داخل المخيمات نفسها، ولا تقتصر على وجوب تحاشي مأساة مخيم نهر البارد.
إن هناك محاولات استحواذ على المخيمات، أو محاولات للتواجد فيها وجعلها نقاط ارتكاز، من قبل مجموعات لا تفكر أصلاً في مقاومة إسرائيل. منها ما يمثل امتدادات لجماعات أصولية، ومنها ما هو موصول بمجموعات خارجة على القانون، أو مجموعات تحمل أجندة النظام السوري. لذا فإن سلاح منظمة التحرير الفلسطينية في المخيمات، يظل حاضراً للضرورة، لا سيما وأن هناك حساسية شديدة، لدى سكان المخيمات، من قيام الجيش اللبناني بمهام السيطرة بنفسه، وضبط المخيمات من الداخل. وهذه هي حقيقة الظروف الراهنة الملتبسة، علماً بأن ما قاله أبو مازن، عن لا مشروعية السلاح حتى في داخل المخيمات، صحيح من حيث المبدأ! إن ما وصلنا اليه، من علاقات إيجابية مفتوحة، مع الدولة اللبنانية ومع القوى السياسية في لبنان، يسمح بالتوسع في الحوار وصولاً الى تفاهمات تفصيلية، حول سياق حياة الفلسطينيين ومعاشهم وكرامتهم، لكي تبدأ المسيرة، على قاعدة طي مزاعم التوطين الذي نرفضه، ومراكمة الوقائع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، وصولاً الى وحدانية السلاح الشرعي الذي هو حق حصري للدولة.
نتطلع الى حال من اللجوء الكريم للفلسطينيين في لبنان، وهناك من الثقة المتبادلة، بيننا وبين الدولة اللبنانية، ما يسمح بالوصول الى هذا الحال الإيجابي. لقد عانى شعبنا في لبنان، منذ الشهر الأول من اللجوء، من أوضاع مزرية ومن ممارسات مؤسفة، سمعناها من أبناء شعبنا في لبنان، وقرأنا عنها تفصيلاً، في كتاب مشفوع بالوثائق المصورة، أصدره قبل نحو ربع القرن، المؤرخ اللبناني المحترم حسّان حلاق. فلا مجال لأن تتكرر ممارسات امتهان الفلسطينيين، ونحن مع الدولة، ومع اكتمال الشروط الدستورية لهيبتها واقتدارها!