مذبحة الأطفال:ليست مع العزاء مصيبة

ما زال هناك الكثير من الرياء، ومن التحسب ومن اللامبالاة، يتفشى في العالم كله ـ بما فيه الوطن العربي ـ حيال مأساة شعبنا العربي السوري، الذي يُذبح بسكاكين الفجرة، المتحللين من أية قيمة إنسانية أو أخلاقية، ناهيك عن أية قيمة سماوية. ولنقس هذه المسألة على أنفسنا نحن في فلسطين: ماذا لو كان السوريون والعرب والمنتمون للإنسانية قاطبةً، تلقوا باللامبالاة ـ مثلاً ـ نبأ مذبحة الحرم الإبراهيمي، التي اقترفها المجرم الصهيوني باروخ غولدشتاين، في الأسبوع الأخير من شهر شباط (فبراير) 1994؟ عندها كنا سنشعر بإحباط أكبر من وجع المذبحة، علماً بأن ما فعله المجرم الصهيوني، على فظاعته، أحيط بعوامل وبعناصر قياس، أقل فظاظة، من تلك التي أحاطت بما فعله شبيحة النظام السوري ضد الأطفال في قرية "الحولة" شمال غرب حمص، عند بداية جبل العلويين.

ذلك على الأقل، لأن غولدشتاين ينتمي الى أقصى يمين الصهيوني المتطرف. ولكي لا يستهجن قارئي، هذه المقارنة، نكتفي من عناصر القياس، بواحد منها، وهو أن مقترف مجزرة الحرم الإبراهيمي، كان من عتاة المستوطنين، وأن حكومة الاحتلال، على الرغم من تواطؤ جنودها في المكان، دانت المجزرة وشكلت لجنة لامتصاص غضب شعبنا والعالم، وأن الطرف الاحتلالي، حكومة ومستوطنين، معروف للقاصي والداني ولا ينكر الطابع العدواني لوظيفته.

أما مقترفو جريمة "الحولة" فالمفترض أنهم من أهل البلاد ومن مواطنيها، وهم من عصب النظام، وجاءوا الى القرية، من قرى شقيقة وجارة للقرية المغدور أهلها في منازلهم. والنظام لم يستنكر الجريمة لأنها من صنف بضاعته. لذا أمعن الأسديون في الإنكار. من هنا، كان ما فعلته أيدي القتلة في سورية، خليقاً بأن يستحث أقوى مظاهر المساندة ـ كلٌ حسب قدرته ـ للشعب السوري في فاجعته، لكي يتخلص هذا الشعب العزيز الشقيق، من نظام لا يُحيل حياته الى جحيم وحسب؛ وإنما يلوث البيئة الإقليمية، ويسري كالسرطان في المنطقة بأسرها! إنني أربأ بوسائل إعلامنا، وفي مقدمها محطات التلفزة الفلسطينية بكل أطيافها، أن تتجاهل مجازر بهذا الحجم، ضد أطفال مجتمع تنبض قلوب أبنائه مع فلسطين. إن أهالي مناطق ريف حمص، معروفون بالطيبة، وبالعاطفة النبيلة، وبالكرم وبالعروبة الجيّاشة.

فلا يبرر هذا التجاهل، أو التخلف عن إعطاء بضع دقائق من التوقف أمام هكذا فظائع، ما يُقال عن "الذكاء" السياسي في موقف إظهار الحياد. وكأن هذا النظام المجرم، كان محايداً حول أي شأن من شؤوننا الفلسطينية. وكأنه ليس هو الذي حاول جاهداً جعل منظمة التحرير منظمتين، وفتح فتحين وثلاث، وجيش التحرير الفلسطيني جيشين، واتحاد الكتاب والصحفيين اتحادين، وجَعَل عدداً من الفصائل، كل واحد منها اثنين، واتحاد الفلاحين اتحادين. وفي كل نصف من تلك الأنصاف، ظل يفتح سياقات للقسمة، وفي غضون كل تلك الممارسات، لم يكف عن الزج بأحرارنا في السجون، ولا عن تخوين القيادة الوطنية، ولا عن الاغتيال الذي لم يبدأ بالقائد الشهيد سعد صايل ـ ومن قبله ومن بعده قيادات ميدانية ـ ولم ينته من التدخل السفيه في شؤونا!

وكأن هذا النظام المجرم، يفتقر الى متزعمين أتباع، من الفلسطينيين فاقدي الإحساس بدم أبناء الأمة وبالتاريخ، لكي نخشى على شعبنا في سورية من بطشه. فأتباعه موجودون، وبمقدروهم مواصلة انتحال صفة تمثيل الفلسطينيين. ثم إن ذريعته حاضرة لو أننا قمنا بواجب الإعلان عن خصومة نهائية معه، وهي أننا خائنون أصلاً. ألم يكن هذا هو رأيه المنطوق بلسان بشار نفسه، في الجلسة الأولى من القمة الأخيرة له، التي حضرها في ليبيا (سرت 27/3/2010) عندما رد عليه الرئيس أبو مازن؟!

* * *

في بداية الثورة السورية، كان من الحكمة أن نتريث وأن نكون حذرين، نلمّح ولا نصرّح، مراهنين على احتمالات الحل الديموقراطي والسياسي. لم تكن ارتفعت معدلات القتل الى وتيرة الإبادة الجماعية. وكان شعبنا العربي السوري سيتفهم حساسية موقفنا بعد أن ينتصر. لكننا اليوم، نأثم حتماً ونُلام تاريخياً، إن لم نجاهر بموقفنا المبدئي المعلن، الذي سيرفع معنويات شعبنا العربي في سورية، فيما هو يواجه وحيداً آلة القتل، بالتواطؤ المباشر والمساندة، من قبل دول كبرى في الإقليم وفي العالم، وبالتواطؤ غير المباشر من قبل إسرائيل والغرب.

لا بد من اليقين، بأن هذا النظام سيُحال الى مزبلة التاريخ، لأن الشرط الوحيد الذي يمكن أن يمنحه فرصة النجاة، هو أن يفنى الشعب ذبحاً أو حرقاً، وهذا مخالف لسنن الحياة ولطبائع سيرورات الأمم. ثم إن النظام غبي وقد أعماه الله عن طريق النجاة، ولم تنفع معه النصائح التي أمدتها به، مخابرات الشرق والغرب. بعض هذه النصائح كان دامياً ومؤلماً وكاد أن يحقق نجاحاً قبل أسابيع، إذ تم استدعاء شبح "القاعدة" ونُفذت التفجيرات الإجرامية بأسلوبها الخوارجي الآثم، وبأيدي "الخبراء" لكي يصبح النظام هو والمجتمع الدولي في خندق واحد، ضد الإرهاب العالمي.

لكن الذي حدث بعد أيام أن النظام غلبه طبعه، واستمر في قصف المتظاهرين العزل، وفي إطلاق الرصاص على جنائز تشييع الشهداء، وصولاً الى ذبح الأطفال بالسكاكين! ليقف أحرار العرب والعالم، في وجه النظام الفاشي، حارس استقرار إسرائيل، المستقوي بنيرانه على الشعب، المتأرنب أمام الأعداء. ولترتفع الأصوات، ولتصدر الفتاوى، بما يتوافق مع قواعد الشرع، لكي تكون نصرة السوريين، بكل مستطاع، فرض كفاية إن لم تكن فرض عيْن على كل مؤمن، لتتحقق للشعب السوري المساندة ويكون العزاء، فليست مع العزاء مصيبة.

وستكون العاقبة للسوريين، ولن يكون وطنهم إلا حراً نقياً من التلوث، موحداً عربياً مستعيداً لعافيته ولكرامته!