حين يقول الشعب كلمته...

يحق لشعب أقدم الحضارات على وجه الأرض، أن يفخر بهذا المشهد الديمقراطي الذي يقدم مدرسة في التربية الوطنية، نأمل أن تستفيد منها الشعوب العربية، ومن بينها شعبنا الفلسطيني الذي ينتظر منذ أكثر من ست سنوات إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ويحق لنا ولشعب مصر أن يفخر بهذا التنوع الواسع في المشهد، الذي يقول للقاصي والداني إن مصر ليست "مطوبة"، ولا هي ملك لهذه الفئة أو تلك، وإنها ملك لأبنائها الخلص، الانتخابات الرئاسية التي انتهت مرحلتها الأولى وتنتظر المرحلة الثانية، بعد أن يتم الإعلان عن النتائج يوم غد الثلاثاء، هذه الانتخابات حملت ما يمكن اعتباره مفاجآت، أو اختراقات لما بدا في الانتخابات البرلمانية على أنه، هيمنة كاسحة للقوى الإسلامية. فوجئ الكثيرون حين تقدم محمد مرسي، الذي يوصف من قبل المواطنين المصريين على أنه المرشح الاحتياط، ليقفز كثيراً عن المرشح الإسلامي "الليبرالي" والذي حظي بدعم الجماعة السلفية عبد المنعم أبو الفتوح.

ولكن المفاجأة الأكبر والأشد إثارة، كانت في حصول المرشح حمدين صباحي، المناضل الناصري التقدمي، على أكثر من عشرين في المائة، بفارق 4% عن المرشح أحمد شفيق و5% عن المرشح محمد مرسي، هذا يعني أن مصر السياسية تتوزع بين ثلاث كتل أساسية كبيرة، هي بالإضافة إلى كتلة النظام الرسمي، كتلة الإخوان المسلمين، وكتلة الناصريين التي يمثلها صباحي. وعلى الرغم من أن الجماعة السلفية قد حصلت في الانتخابات البرلمانية السابقة، على الموقع الثاني من حيث عدد المقاعد بعد كتلة الإخوان المسلمين فإن مرشحها أبو الفتوح، قد أظهر تراجع شعبية هذه الجماعة التي تقدمت عليها كتلة الناصريين بفارق كبير. المسألة هنا ليست شخصية، إذ ربما كان محمد مرسي، الأضعف في الخصائص الشخصية التي ظهرت خلال الحملات الانتخابية، إلاّ أنه حصل على الموقع الأول من بين المترشحين انطلاقاً من الكتلة التي يمثلها في الشارع السياسي المصري.

حمدين صباحي، قدم نفسه خلال الحملات الانتخابية، بشكل جيد جداً، وقد برزت لديه خصائص شخصية مهمة، تؤهله لتبوّؤ مثل هذا المنصب، وهو رئاسة مصر، ولأنه قومي، ناصري، تقدمي وديمقراطي فإن هذه الأبعاد بالإضافة إلى خصائصه الشخصية، جعلته الأكثر أهلية، لأن رئيس مصر، هو رئيس الأمة العربية. يحق لصباحي ومؤيديه أن يفخروا بالإنجاز الذي تحقق، ويحق لنا ولكل الساعين لنهضة الأمة العربية ووحدتها، وتقدمها أن يفخروا بهذا الإنجاز الذي يجعله المرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية القادمة في مصر بعد أربع سنوات.

لا يقلل من أهمية هذا الإنجاز وروعة المشهد الديمقراطي في سباق الرئاسة المصرية، ما ظهر من توتر لدى بعض القوى وبعض غير الديمقراطيين الذين تعمدوا التشويش وإثارة المخاوف ويهددون بالعودة إلى ميدان التحرير، في حال نجح المرشح أحمد شفيق. إن من يقرأ الأوضاع في مصر، والكتل الفاعلة في المجتمع، لا يمكنه أن يخطئ التقدير، وإلاّ كانت علاقته بالسياسة مثل علاقة العرب بحرب النجوم. في مصر ثمة كتلتان كبيرتان قبل أن تظهر الرئاسة المصرية كتلة الناصريين ككتلة ثالثة كبيرة، الأولى هي كتلة الإخوان المسلمين ومعها الجماعات الإسلامية الأخرى، والثانية هي كتلة النظام السابق والحالي دون الرئيس وبعض أهل الحكم، الذين يقبعون في السجون، أو الذين يلاحقهم القضاء المصري. كيف يمكن للوطن أن يكون مهدداً بالخطر، وأن تكون الثورة التي لم تكتمل بعد، مهددة هي الأخرى، إذا فاز المرشح أحمد شفيق؟ المفارقة عجيبة وغريبة، فطالما أن الكل ارتضى بالاحتكام لصناديق الاقتراع، التي فاز من خلالها الإخوان المسلمون، والجماعة السلفية، بأغلبية المقاعد لمجلسي البرلمان والشورى، فإن عليهم وعلى الجميع أن يقبلوا بنتائج الانتخابات الرئاسية مهما كانت طبيعة الرئيس القادم. المنطق غير مقبول، ولا يشير إلى عمق الالتزام بالديمقراطية، بل إن مثل هذا المنطق هو المخيف، ذلك أن الانتخابات جيدة إذا كانت في صالحه، وهي مشبوهة وخطيرة إذا جاءت لصالح طرف آخر.

والحقيقة أن الخطر على مصر يتأتى من هيمنة تيار سياسي على مختلف مؤسسات الحكم، لأن هذا يعيد صياغة الاستبداد بطريقة أخرى، ويضعف الرقابة على أداء مؤسسات الحكم، ما قد يكون مقبرة للديمقراطية والتعددية السياسية وقبول الآخر. ثم لماذا يكون المرشح أحمد شفيق من الفلول، إذا كان قد حصل على البراءة من القضاء، وإذا كان قد حصل على الموافقة من المؤسسات الدستورية التي قامت بواجباتها إزاء التدقيق في أهلية المرشحين للرئاسة ومن بينهم شفيق؟ إن على هؤلاء وأولئك أن يتبصروا، وأن يتعقلوا، حتى لا يخسروا المزيد من شعبيتهم، فأية فلول يجري الحديث عنها، حين يحصل شفيق، على ما يقرب من ربع أصوات الخمسين في المائة الذين أدلوا بأصواتهم، وهل كل هؤلاء فلول؟

من الواضح أن هناك شخصنة للأمر، وإساءات غير مقبولة لمن له حظ الفوز برئاسة مصر، في ظل قوانين ودستور جديد ومرحلة جديدة لا يمكن أن يتكرر معها، ما حصل للرئيس السابق حسني مبارك، هناك انتخابات كل أربع سنوات، وهناك فصل بين السلطات، وهناك برلمان ومجلس شورى من طينة مختلفة عن طينة الرئيس وهناك شعب لا يزال يتأهب لمتابعة دوره في حماية ثورته، وفي صنع مستقبل مصر.