الشعب من متسول إلى سيد

في المجتمعات الإنسانية قد تفصل لحظة تاريخية بين زمنين تجعل كل ما يأتي بعدها مختلفاً عمّا كان قبلها، وقد يمتد الزمن في هذه المجتمعات عقود طويلة، لا تغيير فيها، ما يجعل كل شيء فيها يخبو ويخفت ويتقعر ويتعفن مع الاستمرار لزمن طويل في ظروف حياة راكدة تدمر كل شيء، السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة وحياة البشر. أعتقد، أن العالم العربي يمر اليوم في لحظة انعطافة تاريخية كبرى، تجعل كل ما قبلها في موقع التغيير والتجاوز، فالثورات ليست لحظة استمرار تاريخي، بقدر ما هي لحظة قطيعة مع التاريخ السابق الذي جرى التمرد عليه وإسقاطه. نحن لا نستورد أناس جدد ليصنعون هذه القطيعة، بل مكر التاريخ وديالكتيه، يجعل المجتمعات تنتج قطيعتها ببطء في ظل السلطات المستبدة والفاسدة التي يعيشون فيها ويطورن آليات احتجاج ضدها، قد يكون احتجاجاً علنياً وقد يكون احتجاجاً صامتاً، لكنه احتجاجاً ثابتاً، يتعلق الأمر في نهاية المطاف بمستوى وشمولية ووحشية ودموية القمع التي تتعرض له المجتمعات التي تقع تحت حكم الاستبداد. وفي لحظة القطعية، يخرج البشر الذين لم يعودا يقبلون العيش بالطريقة السابقة باحتجاجات واسعة إلى الشارع، يحتلون الميدان العام بالمعنى السياسي، ويقلبونه رأساً على عقب.

يعودون إلى الميدان العام الذي تم إبعادهم عنه وطردهم منه، بالعنف والقمع العاري الذي قتل السياسة في العالم العربي من خلال قتل حرية هذه المجتمعات. ظهرت الدول العربية خلال العقود القليلة المنصرمة بوصفها مجتمعات تعاني من حقبة تصحر سياسي شامل بعد عقود من التعقيم الشامل، جعل السلطات وحدها بديلة نفسها، وتضعها فوق الوطن والدولة، وتم شخصنة السلطة في شخص الحاكم وتأليهه، فهو الشخص الذي لا يقترب الخطأ منه، والذي يأتي بالمعجزات، التي لا يمكن أن تحصل لولا وجود القائد الفذ الذي اصطفاه التاريخ ليصنع المجد للشعب المسكين الذي انتظره طويلاً، فالشعب لا حول له ولا قوة بدون القائد الملهم الذي منح بلده كل انجاز، من لقمة الخبر إلى المدرسة إلى أي مشروع صغر أو كبر في البلد، والشعب دون هذا القائد العظيم يتيم لا أحد يكيل في صاعه. سمعنا هذه اللغة على مدار عقود طويلة، منجزات تاريخية قام بها هذا الرئيس أو ذاك، وهذه المنجزات جعلته ضرورة وطنية لا غنى ولا بديل عنه، فدونه الفوضى والتفكك والانقسام والحرب الأهلية والإرهاب... الخ من الاسطوانة المشروخة والدولة جوقة كاملة تكرر هذا الخطاب وعلى الشعب المسكين أن يهز رأسه موافقاً على تأليه الحاكم، وعليهم أن يسبحوا بحمد القائد والمنح والعطايا التي يمنحها لشعبه. هذا الخطاب الذي تكرر لعقود في البلدان العربية، لم يُفقد السياسة من معناها فحسب، بل لوى عنق اللغة وأفقدها معناها أيضاً، لتتوافق مع خطاب المديح الكلي مثل السلطة الكلية للحاكم.

وبذلك تحولت اللغة العربية في الخطاب السلطوي إلى لغة خشبية مجوفة لا معنى لها، لغة من الصعب الاستماع لها، لأنها لغة فقدت دلالاتها، تحتفل بنفسها، ولكنه احتفال بلا معاني، احتفال تنكري بلغة إنشائية، تُحول الهزيمة إلى نصر، والفقر إلى غنى، والسياسة إلى موضوع إنشاء في حب الحاكم العظيم، والاقتصاد منح من الحاكم للشعب المتسول، وفي سياق آخر يرفع الشعب المتسول على مراتب المواطن العظيم في الدول العظيمة، وعلينا أن نقبل خطاب السلطة في كل الحالات التي يتعطف الحاكم في منح درر خطابه ـ المقعر الذي لا يقول أي شيء سوى الأكاذيب ـ على الشعب المسكين. منذ مطلع العام 2011 شهدت الدول العربية وما زالت الثورات، هذه الثورات التي راكمت خلال أشهر ثقافة سياسية تفوق بأهميتها تلك الثقافة السياسية التي تراكمت خلال نصف القرن الذي سبقها.

كما أنها جلبت قطاعات جماهيرية واسعة إلى عالم السياسة لم يكن يخطر لأحد أنها ستنضم إلى دائرة الفعل السياسي وتكون جزءاً من حوامل التغيير، إنها لحظات من الكثافة التاريخية الاستثنائية التي نادراً ما تشهدها المجتمعات البشرية. أعادت هذه الكثافة التاريخية للغة السياسة معناها من جديد، غادرت السياسة اللغة الخشبية والمقعرة والجوفاء التي كرستها السلطات الاستبدادية في مجتمعاتها، وعادت لغة سياسة بامتياز، لغة خلافية وهي طبيعة اللغة السياسية أصلاً، تدل على قضايا دلالة مباشرة دون مواربة، نزل الحاكم من التأليه إلى الواقع، وبات فاراً أو محاكماً، وتبين أن الانجازات والمعجزات التي تم الحديث عنها طوال عقود، ما هي في حقيقتها سوى كوارث جلبها نظام الحكم الاستبدادي إلى بلده.

وباتت السياسة كما هي في التاريخ لغة اختلاف، وليس لغة توافق، والاقتصاد ملك الشعب لا ملك الحاكم، ويتكرس حق البشر في نقاش قضاياهم، بما في ذلك من يكون حاكماً عليهم، والحاكم هو الذي يعمل عند الشعب، لا الشعب هو الذي يعمل عند الحاكم. بفضل الثورات عادت الحياة تدب بلغة السياسة بعد أن تم سحبها منها لعقود طويلة. عادت السياسة إلى قلب المجتمع، إلى مكانها الطبيعي، ليس دون عقبات، ولكن دون تلعثم، المجتمعات التي شهدت التغيير، تشهد مشكلات كبيرة، ولكنها استعادت لغة السياسة التي فقدتها لعقود، وعدلت من مكانة الشعب من متسول إلى سيد.