الطريق طويل إلى المصير المحتوم...

ليس غريباً، ولا هو شاذ وفق أحكام التاريخ وتجاربه الغنية، أن تستغرق عملية التغيير في بلد مثل سورية، كل هذا الوقت، ولا هو كثير أن يدفع المطالبون بالتغيير كل هذا الثمن. عام ونصف، انقضى على اندلاع الاحتجاجات، في سورية، ولا تزال عملية التغيير مهما كان حجمها ومهما كانت نتائجها مفتوحة على المزيد من الوقت، وعلى المزيد من الدماء والتضحيات والآلام، فلا النظام ضعيف إلى حد التسليم، ولا المعارضة قوية إلى حد الحسم. في كل الأحوال، من غير المتوقع أن تعود سورية إلى الخلف، فلقد أفرزت دروس "الربيع العربي" واحداً لا يقبل الجدل، وهو أن التغيير واقع لا محالة، بمجرد أن تبدأ الجماهير بالخروج إلى الشوارع، متجاوزة حدود الخوف المجنون، الذي فرضته الأنظمة القائمة، منذ عقود. هكذا حصل في تونس، وليبيا، ومصر، واليمن، والمغرب، وسورية ليست استثناء، رغم قوة وتماسك النظام، وقوة أدواته.

ويبدو من خلال التجربة، أيضاً، أن الزعماء، المستهدفين بالتغيير، غير مستعدين للاستفادة من دروس السابقين، ولن يظهر من بينهم رئيس يتقمص دور بطل التغيير، فيبادر إلى إجراء التغييرات اللازمة، للانتقال بالبلاد نحو الديمقراطية، أو من يحظى منهم بثقة الجماهير التي يدعي الدفاع عنها، فيترشح إلى مقعد الرئاسة عبر انتخابات نزيهة، فإن نجح فهو الرئيس وبطل التغيير، وإن فشل فهو الرئيس السابق وبطل التغيير الديمقراطي. وفي بلد مثل سورية يحكمها حزب قومي، فشلت تجربته في تحقيق النهوض القومي العربي، وفشلت في تحقيق التنمية، والديمقراطية الداخلية، وفي إقامة نظام المواطنة والعدالة الاجتماعية، وصيانة الحريات العامة والفردية، في بلد مثل سورية، أرضه محتلة منذ عام 1967، من المؤسف والمؤلم أن يتحول الجيش الذي بني على عقيدة التحرير، أن يتحول إلى أداة قمع للجماهير.

في منتصف هذا الشهر، وقبل حلول شهر رمضان بأيام قليلة، تكون المهلة التي أعطيت للمبادرة الدولية والعربية، التي يديرها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، قد انتهت مثلما انتهت قبلها مبادرة المراقبين العرب، الذين أرسلتهم الجامعة العربية. الذين وقفوا ويقفون خلف مبادرة أنان كانوا يعرفون سلفاً أن مثل هذه المبادرة لن تصل إلى نتيجة، لأنهم يعرفون تماماً أن النظام يعرف هو الآخر، أنه في كل الحالات، خاسر، فإن استجاب تماماً لبنود مبادرة أنان، فإن ذلك سيؤدي إلى تشجيع الكتل الشعبية الخائفة للخروج إلى الشوارع، وإن لم يستجب كانت النتيجة كما هي الآن، حكماً دولياً صعباً ضد النظام. وخلال الأشهر التي استغرقتها المبادرة العربية، والمبادرة الدولية العربية لم تتوقف القوى الخارجية عن تأجيج الصراع، وعن عسكرته.

إذ اندفعت مجموعات كبيرة من القاعدة، الموجودة في العراق، وليبيا، والمغرب العربي والكثير من الخلايا النائمة في بلدان عربية قريبة من سورية، كلها اندفعت إلى سورية، الأمر الذي يغذي الصراع بمزيد من الوقود، فالنظام يقاتل ضد الإرهاب، والمعارضة لا تستطيع تجنب هذا المنزلق، وعليها أن تدفع الثمن. والحال أن التدخلات الخارجية المباشرة، غير قائمة إلاّ بالمعنى السياسي والإعلامي، والتحريضي، ومن خلال بعض العقوبات غير المؤثرة، لكن التدخل الفعلي قائم على مدار الساعة، عبر أطراف ثالثة تظهر في الميدان أكثر من حاجتها للظهور على سطح الأحداث. في هذا الصراع المرير، تتحمل المعارضة مسؤولية كبيرة، إذ إنها رغم مرور عام ونصف إلاّ أنها لم تنجح في توحيد صفوفها، أو صياغة برنامج وأهداف واضحة، وكان الوقت كافياً لبلورة أدواتها ورموزها وشعاراتها، فليبيا التي كان تعاني من غياب الحياة السياسية والأحزاب تمكنت خلال فترة ليست طويلة من فرز المجلس الوطني الانتقالي كجهة مسؤولة وبديلة عن النظام السابق.

لا مجال هنا لإلقاء اللوم على القوى الخارجية، التي تلتزم مواقف حيادية للنظام في سورية، وإن كانت تلك القوى، ترى أن مرور المزيد من الوقت قبل ساعة الحسم، هو جزء من استراتيجيتها طالما أنها ليست معنية بدفع الثمن. الذريعة المعلنة لتخاذل المجتمع الدولي، هي الموقفان الروسي والصيني اللذان يمنعان اتخاذ قرارات حاسمة في أروقة الأمم المتحدة، ويقفان حجر عثرة أمام إمكانية التدخل العسكري، أما الحقيقة، فإن الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها، لا ترى أن الوقت مناسب لإنهاء الصراع. سورية دولة قوية، مجاورة لإسرائيل، وهي تملك جيشاً قوياً، وتمثل إحدى أهم العقد الإقليمية، التي يصيب التغيير فيها أكثر من طرف وأكثر من بلد، ولذلك كان من الضروري أن تترك في حالة صراع دموي مرير، يضعف بل يدمر كل أركان قوتها، وربما يهدد وجودها كدولة.

إن القوى الخارجية تستهدف دفع سورية للتدمير الذاتي، الأمر الذي سيؤدي إلى تفكيك وتدمير المحور الإيراني، وإلى إدخال لبنان والأردن لاحقاً في دوامة صراعات مدمرة. كل هذا سيوفر لإسرائيل محيطاً آمناً دون اتفاقيات، ودون أن تقدم أي ثمن لمثل هذا "السلام والآمن"، مع استمرار احتفاظها بهضبة الجولان، وربما يغريها لتوسيع نفوذها ومصالحها في المنطقة. بعد فشل المبادرة الدولية العربية، من غير المحتمل أن يضع المجتمع الدولي حداً لها، ففي ضوء غياب البدائل، تبقى هذه المبادرة التي تدعو إلى حوار لن يتم، صالحة مع بعض التعديلات الإضافية التي ترضى عنها الأطراف الدولية المتعارضة بشأن سورية.

الآن يكمن المخرج، لإطالة أمد الصراع، في الاقتراح الذي ينوي الأمين العام للأمم المتحدة تقديمه، وهو منح المراقبين الدوليين، بعض الصلاحيات السياسية، وكأن الأمر لم يكن ينطوي على أبعاد سياسية في الأساس، والأصل أن من أرسلوا المراقبين الدوليين كانوا يعرفون مسبقاً أن عددهم ومعداتهم وصلاحياتهم لا تمكنهم ولا تخولهم من أن يفعلوا شيئاً مفيداً سوى كتابة المزيد من التقارير وتقديم المزيد من الشهادات والذرائع. وفي الواقع فإن وجود المراقبين الدوليين خلال الأشهر الثلاثة الماضية من عملهم، قد أدى إلى ارتفاع معدلات الصراع، ورفع أعداد الضحايا إلى مستويات غير مسبوقة، مما يعني أن الحل أولاً وأخيراً يبقى ويجب أن يبقى في أيدي السوريين أنفسهم.