عملية إرهابية لكنها ذات أبعاد سياسية هامة
من غير الممكن الآن تقييم نتائج وتداعيات العملية الإرهابية بامتياز، التي وقعت على مثلث الحدود المصرية- الإسرائيلية مع قطاع غزة، يوم الأحد الماضي، فهذه من نوع العمليات غير المعقدة فنياً ولوجستياً، لكنها تنطوي على تعقيدات وتداعيات شديدة الحساسية في ميدان السياسة، وصراعات الحكم في مصر، وقطاع غزة. ومن الواضح أن العقاب الأول الذي اتخذه الرئيس محمد مرسي بحق قطاع غزة، قد أثر على نحو ملموس في حياة الناس، إذ عدا عن توقف الحركة من خلال المعبر والأنفاق، التي تشكل أزمة حقيقية لعشرات الآلاف، فإنه أدى أيضاً إلى ارتفاع أسعار الكثير من المواد التي تدخل إلى القطاع عبر الأنفاق، وبشكل أساسي المحروقات والسجائر.
مصيبة قوم عند قوم فوائد، فالشعب الفلسطيني في قطاع غزة هو كالعادة الذي يدفع الثمن وهذه المرة أيضاً لحساب التجار الكبار، الذين نشأوا وترعرعوا بعد الانقسام وبالاستفادة منه، ولحساب السياسة التي تدير القطاع. عملية التنفيس المحدودة التي جرت سواء من خلال إعادة تشغيل بعض الأنفاق، أو من خلال فتح المعبر للعائدين إلى القطاع فقط، دون المغادرين، ليست هي نهاية الأمر، إذ من غير المعقول أن يتم إغلاق الأنفاق كمحرك للتجارة، بدون استبدالها بتجارة مرسمة من فوق الأرض وباتفاق يجري البحث فيه منذ بعض الوقت، والحال أيضاً يسري على معبر رفح، الذي من المتوقع أن يشهد تحسينات في شروط حركة المسافرين، ليس أقلها بناء لاتفاق سابق بفتحه يومياً من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءً.
كنا نعتقد أن منح القطاع مثل هذه الامتيازات المتوقعة، سيتم من خلال المصالحة، لكن يبدو أن هذا الأمر مختلف، وهو يشكل اختباراً لمصداقية الرئيس مرسي الذي كرر في تصريحاته التزام مصر بتحقيق المصالحة، وأن مصر تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف الفلسطينية.
الرئيس مرسي يملك بالإضافة إلى ما تملكه مصر، من مكانة لدى الفلسطينيين، يملك ورقة هامة يمكن في حال استثمارها على نحو حقيقي وصادق، أن تشكل مخرجاً لإتمام المصالحة، ونقصد بذلك ورقة المعبر وتجارة الأنفاق، لكن قبل الحكم على أداء الرئاسة المصرية إزاء ملف المصالحة علينا أن نتريث قليلاً.
قد يكون مناسباً وجيداً على المستوى المعيشي لسكان قطاع غزة، أن يتم فتح معبر رفح على مدار الساعة، وأن يجري توسيع قنوات التجارة وبشكل رسمي بين مصر والقطاع، لكن السؤال هو أين ستصبح القضية الفلسطينية والأهداف، في حال وقع ذلك بدون أن تتم المصالحة الفلسطينية، وبالتالي ما هو الثمن الذي على الفلسطينيين أن يدفعوه، وما هو حجم ونوع الحصاد الإسرائيلي جراء اندفاع القطاع نحو الاعتماد على مصر أكثر فأكثر، واستمرار الانقسام الفلسطيني ومفاعيله وتداعياته؟ ليس هذا فقط، بل إن المواطن المصري البسيط والعفوي لا يميز بين غضبه على سكان قطاع غزة، أو على فئة سياسية بعينها، وبين غضبه على فلسطين والفلسطينيين، وفي الواقع فإن العملية الإرهابية التي وقعت في سيناء مؤخراً، قد شكلت عامل تحريض ضد الفلسطينيين، وساهم في ذلك بعض وسائل الإعلام، وصناع الرأي العام من السياسيين. على نحو آخر، يبدو أن العملية الإرهابية قد شكلت فرصة للرئيس مرسي لتأكيد وتفعيل صلاحياته ودوره، في مجابهة خصومه السياسيين وغير السياسيين، فلقد منحته فرصة المبادرة لشن هجوم عسكري أمني على ما يعتقد بأنه أوكار الإرهابيين في سيناء، ومن موقع الذي يعالج خللاً ساهم السابقون عليه من القيادات العسكرية والأمنية والسياسية في خلقه.
حتى الآن جاء رد الرئيس المصري كمقدمة وجواب أولي على وقوع العملية، بإعفاء عدد ليس قليلا من مسؤولي الأجهزة الأمنية، والإدارية، ما يتيح له استبدالهم بعناصر جديدة، ربما تكون أكثر ولاءً. على الأقل أثبت الرئيس مرسي، أنه قادر وعازم على ممارسة صلاحياته كاملة، وأنه أبلغ الجميع بأن لا أحد يملك الحصانة للبقاء في منصبه، وأن لا رؤوس كبيرة يمكن أن تقف أمام الرئيس. وإذا كان الرئيس لم يمس حتى الآن المستوى القيادي الأول في الجيش، فإن إقدامه على تغيير وإقالة مسؤولين أمنيين كبار، يشكل بداية نهج يسعى وراء استبدال أدوات الحكم القديمة، بأدوات جديدة، مستعدة لحمل مشروعه.
وفي الواقع، فإنه ما كان للرئيس مرسي، أن يجرد هذه الحملة العسكرية والأمنية الواسعة والمستمرة، وأن يتمكن من استخدام الطيران الحربي في هذه الحملة بمعزل عن تنسيق مسبق وموافقة من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. لقد سبق لإسرائيل أن رفضت قرار طلب مصر لزيادة حجم القوات العسكرية في سيناء، لمواجهة الفلتان الأمني فيها، لكن إسرائيل كانت ترفض الطلب دائماً، إلا مرة واحدة حين وافقت على زيادة القوات بنحو سبعمائة وخمسين عسكريا وضابطا، ولم يكن لهؤلاء ومن تسمح بوجودهم اتفاقية كامب ديفيد أن يبدلوا واقع الحال في سيناء. على أنه بالرغم من كل ما يقوم به الجيش المصري في سيناء لملاحقة الجماعات المسلحة والإرهابية، وتجار السلاح والمخدرات، إلا أنه من المشكوك فيه أن ينجح الحل الأمني في تبديل الواقع القائم جذرياً، ذلك أن تحقيق هدف السيطرة وبسط سيادة الدولة، والاستقرار في سيناء يستدعي خطة شاملة ومتكاملة وبعيدة المدى، وهو هدف دونه مصلحة إسرائيل في أن تظل سيناء ملعباً مفتوحاً لأجهزة مخابراتها، ولمخططاتها الجهنمية.
ولا يعرف أحد حتى الآن، المدى الزمني الذي تسمح به إسرائيل للسلطات المصرية، لكي تتابع حملتها في سيناء، والأرجح أن هذه الموافقة محدودة، زمنياً ولوجستياً، وأن القوات التي دخلت إلى سيناء تحت عنوان ملاحقة الإرهاب، ستعود إلى مواقعها السابقة، فليس في المخططات الإسرائيلية ما يدعو للاعتقاد بأنها مستعدة لتمكين مصر من تجاوز اتفاقية كامب ديفيد، أو النجاح في بسط سيطرة الدولة عليها. على أن الحملة العسكرية في سيناء، من المرجح أن تستمر بالقدر الذي يعطي الرئيس مرسي الفرصة الكافية لاستنفاذ كل ما يريد تحقيقه في هذه الجولة من الصراع على الحكم، لكن دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء التي تقف عندها المصالح والأهداف الإسرائيلية.
إذاً نحن أمام عملية إرهابية في طبيعتها واستهدافاتها، لكنها تنطوي على تداعيات وانعكاسات كبيرة وجوهرية، تتصل بوضع مصر الداخلي، وبعلاقات وأدوار القوى المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه العملية، وهي مصر، وإسرائيل، وقطاع غزة، مع الأخذ في الاعتبار أن إسرائيل هي الطرف الأكثر فاعلية وقوة في معادلة العلاقات والأدوار المقبلة، أما الطرف الغائب فهو السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.