عباس أول زعيم فلسطيني يقود سياسة كفاح بدون عنف

محمود عباس

خيراً تفعل إسرائيل في هذه المرحلة إذا ما تركت أبو مازن لنفسه
 

جاكي خوجي

كان هذا قبل اسبوعين، وابو مازن خرج إلى الجمهور لأول مرة منذ اندلعت موجة السكاكين وقال كلمته. وفي إسرائيل سيتذكرون الخطاب بفضل الصورة الكبرى. صورة الطفل ابن الـ 13 من بيت حنينا، يرتجف وينزف على الارض بعد ان شارك في عملية طعن في بسغات زئيف. وقد عرضها ابو مازن امام الكاميرا وادعى بان الطفل أعدم على ايدي الإسرائيليين، دون ان يذكر حتى بكلمة هدف وصوله إلى هناك. الطفل، «أ» اصيب بجراح متوسطة، نقل إلى مستشفى في إسرائيل وشفي. وهذا الاسبوع صعد مرة اخرى إلى العناوين الرئيسة. هذه المرة في قاعة المحكمة، يبتسم في كل صوب.

ولكن الخطاب الذي بث جدير بأن يذكر لأسباب أخرى. إلى الكاميرا نظر الينا زعيم منهك، في اواخر حياته السياسية، يعرف ان مهمته العليا فشلت. رئيس لن يكون هنا في المستقبل المنظور، وسعيه لان يحقق لشعبه دولة مستقلة وعاصمتها شرقي القدس لن تقوم في ولايته، ومشكوك أن تقوم في حياته.
شخص في بداية العقد التاسع من حياته، تشكلت روحه السياسية في سنوات الثورة العاصفة للعصر السوفييتي، والان يشق بصعوبة طريقه في العالم الرقمي. هجره الشباب في صالح العمليات الانتحارية، وعندما جاء ليعيدهم إلى الديار، اخذوا يهزأون به ويدعون أنه لا يمثلهم. زعيم ركل من الجارة القاضمة إسرائيل، والتي ترى فيه شريكا فقط عندما يتعلق الامر باحتياجاتها الأمنية. تبين له ان مصر التي في الماضي رأت فيه ابنها المدلل، تعتبره اليوم لجوجا وتنتظر لحظة اعتزاله. وزعيم يبحث عبثا عن مساواة لدى الأمريكيين، ولكنه يجدهم المرة تلو الاخرى مشوشين في البحث عن مخرج من الورطة، ذاك المخرج الذين هم انفسهم لا يعرفون حقا ما هو.
هجمة القتل التي تعربد هنا منذ شهر ليست ـ خلافا للانتفاضة الثانية ـ مواجهة دموية بين دولة إسرائيل وجيشها وبين السلطة الفلسطينية، بل هجمة الشارع الفلسطيني على الشارع الإسرائيلي. في صراع القوى هذا مكان السلطة في جانب إسرائيل. كلتاهما تتعاونان معا ضد الشباب الفلسطيني في محاولة لقمعه. ليست محبة صهيون هي التي تحرك ابو مازن وقادة جهازه الامني، بل تصويت عدم الثقة به من جانب الجيل الشاب. ففي خروجهم إلى عمليات القتل يقولون له- فشلت يا رئيس، حرصت على أن تكون لطيفا مع الإسرائيليين، وتركتنا وحدنا في المعركة.

انتفاضة القدس

هذه الازمة ليست فقط واحدة من لحظات الدرك الاسفل في العلاقات الملتوية بين إسرائيل والفلسطينيين، بل وايضا المفترق الذي يؤشر إلى نهاية عصر محمود عباس. حتى لو استغرق هذا سنة، وربما أكثر، الرئيس الفلسطيني، ابن 80 استنفد قدراته وصعد إلى مسار الاعتزال. التطور الوحيد الذي يمكن ان يعيده إلى موقف الزعامة هو اختراق حقيقي في المسيرة السلمية. واحتمال مثل هذه الخطوة قليل جدا في ولاية الحكومة الحالية في القدس، بينما تحوم عاصفة في المحيط. احترامه محفوظ لدى الفلسطينيين وزعماء العالم. وهو سيذكر كالزعيم الفلسطيني الذي نال العطف الاكبر لدى الاسرة الدولية. الرجل الذي اخرجهم من الخراب إلى الاستقرار، الذي لم يكف عن الترويج للكفاح غير العنيف حتى في اللحظات الاكثر صعوبة مع إسرائيل. ولكن ابو مازن سيذكر ايضا كمن عمل بكل جهد، على مدى اكثر من عقد، على تحقيق حل دائم وعلى المس بالمشروع الاستيطاني ـ ولم يقترب حتى إلى هوامش عباءة هذا الهدف.
احدى اوراق الموقف الاكثر تشويقا عن آخر ما يتعلق بمكانة ابو مازن كتبها البروفيسور مناحيم كلاين من جامعة بار ايلان. ففي مقالين نشرهما مؤخرا الواحد تلو الاخر يقول كلاين ان ابو مازن فقد المجتمع الفلسطيني حتى قبل عمليات القتل. ويعتقد كلاين بان في زمنه ليس فقط لم يتقدم المجتمع الفلسطيني إلى الامام، بل تراجع إلى الوراء.
الباحث الإسرائيلي، من متصدري مبادرة جنيف، وجد أنه في عصر سلفه، ياسر عرفات، تمتع المواطن الفلسطيني بمظاهر اوسع من الديمقراطية وحريات الفرد. ومنذ انتخب ابو مازن لمنصبه قبل 11 سنة، لم تجر مرة اخرى انتخابات للرئاسة، تجمدت الحياة البرلمانية وتخوض السلطة حملات مطاردة للمعارضين. وبغياب السلطة التشريعية، وضع مكتب الرئيس في رام الله نفسه كمقرر للقوانين. لم ينجح ابو مازن في ان يجند لصالحه المجتمع الإسرائيلي كي يمارس الضغط على حكومات اليمين. ولم يفقد غزة فقط في صالح حماس، بل وفي عهده فتحت هوة من الشك بينه وبين قادتها. يصف الباحث الإسرائيلي ابو مازن كزعيم قاتم، يغلق على نفسه في غرفته ولكنه يكثر من الرحلات إلى الخارج، بعيدا عن المشاكل. وهو ليس مبادرا سياسيا في طبيعته، كما يقول البروفيسور كلاين، ويشكك في قدرته على ان يكون شريكا بالنسبة لإسرائيل.
ان المحاولة الإسرائيلية في الاسابيع الاخيرة لعرض هذا الزعيم ورجاله كمهندسين لموجة السكاكين الحالية تصرف البحث عن الامر الاساس. فواقع الحياة في المناطق، ولا سيما في شرقي القدس، اقوى من كل دعوة للعمليات، مهما كانت فظيعة. وباتهام التحريض بانه العامل الاساس وراء العنف، تتجاهل إسرائيل مساهمتها في الاحباط الفلسطيني.
مليونا فلسطيني ونصف المليون ممن يعيشون في القدس وفي الضفة هم سكان مقموعون، حبيسون في علبة، لا يرون أملا لحياتهم. في احياء شرقي القدس يعيش عشرات الاف الشبان والاطفال في بيت الاب فيه عاطل عن العمل، مدرسة تؤدي دورها بصعوبة وفي الشارع ينتظرهم حارس حدود مع سلاح وفم ينتج الاهانات. الاقصى في خطر؟ من يهمه، عندما لا يكون في البيت طعام، والغد ليس مضمونا.
ليس صدفة أن سميت موجة العنف الحالية «انتفاضة القدس» رغم المساعي من جانب قادة حماس لادراج المسجد المقدس في كل بحث فيها. هذه ليست مواجهة دينية، بل قبل كل شيء انفجار جذوره اجتماعية.

لا للعنف

تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو هذا الاسبوع، وبموجبه إسرائيل ستعيش على حرابها إلى الابد جاءت في توقيت بائس بالضبط لهذه الاسباب. فمن أجل اعادة السكاكين إلى مكانها الطبيعي في جارور المطبخ، تحتاج الجماهير الفلسطينية إلى بارقة امل في أنه خلف الزاوية ينتظرهم مستقبل افضل. وفي أزمته، عبر نتنياهو بهذه الكلمات عن الاحباط وليس عن النوايا. ولكن في الجانب الفلسطيني سمعوا وترجموا هذه الاقوال إلى خطة طويلة المدى. فاذا كان اليهود سيطعموننا الحراب إلى الابد، سيقول لنفسه الشاب الفلسطيني فماذا تبقى لنا ان لم نستعد الكرامة المداسة.
في هذا الواقع، مطالب ابو مازن بان يعطي اجوبة لشعبه، ولكن في نفس الوقت ان يقمع موجة العنف. وقد فهم على الفور بان الشباب الذين يخرجون لقتل الإسرائيليين، وكذا اولئك الذين يؤيدونهم بالصمت فقط، هم آخر من سيستمعون اليه عندما سيأتي ليعظهم بان يضعوا السكين جانبا. بتعبير آخر، اصبح هو بالنسبة لهم غير ذي صلة. ابو مازن وفريق مطبخه الصغير أجروا حساباتهم واختاروا تكتيكا فظا وغير مميز لهم. وحدوا لغتهم مع لغة الشارع، وبدأوا يتهمون إسرائيل باعداد الشباب الفلسطينيين ممن خرجوا لعمليات السكاكين.
وكانت ذروة هذا التكتيك في الخطاب اياه الذي القاه الرئيس مع صورة الطفل الطاعن من بيت حنينا. «لن نستسلم لمنطق القوة القامعة وسياسة الاحتلال والعدوان التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية وقطعان مستوطنيها ضد شعبنا، مقدساتنا، بيوتنا واشجارنا. فهم يقتلون اطفالنا بدم بارد مثلما فعلوا لهذا الطفل وغيره من الاطفال، في القدس وفي اماكن اخرى في الاراضي الفلسطينية».
في حديثه لم يكن ذكر للنصف المظلم من الصورة، وهو سبب وصول اولئك الشبان إلى المكان الذي وجدوا فيه حتفهم. فالقيادة السياسية في القدس عربدت غضبا، واتهمت القيادة الفلسطينية بانها تقف خلف هجمات السكاكين. فقد قال نتنياهو «لا شك ان موجة العنف هذه يحركها تحريض من جانب ابو مازن والسلطة الفلسطينية». ومع أن من المغري ان نرى في اقوال ابو مازن عن الطفل ابن 13 محركا لاعمال القتل، ولكن خلف هذا الادعاء الهراء الذي خرج على لسانه في ذاك الخطاب عن الاعدام بدم بارد يختبىء ضعف قيادي.
إسرائيل، مع انها سارعت إلى التطوع لذلك ليست هي العنوان على الاطلاق. نتنياهو يثني على ابو مازن إذا كان يعتقد أن بوسعه ان يخرج إلى الشوارع طاعنين وقتلة بهرائه. لا يعني هذا انه يريد: ففي الايام التي ضجت فيها البلاد من خطابه اياه، واصلت اجهزته الامنية التعاون مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية في قمع الاضطرابات ومطاردة المطلوبين. في ذات الخطاب أعلن ابو مازن بان العنف ليس طريق السلطة. وقد درج على أن يقول لسامعية منذ سنين «بالعنف نخسر للإسرائيليين».

لا للفصائل المسلحة

مشكلة إسرائيل كبيرة باضعاف نوايا التحريض لدى السلطة، سواء كان قائما أم لا. فالسكان الفلسطينيون أخذوا جانب العناد. من الان فصاعدا، كل فلسطيني هو طاعن محتمل. وضد هذا التهديد لن تجدي الحلول التقليدية، وبالتأكيد ليس تلك الامنية.
واذا كان احد ما يبحث عن التحريض لدى ابو مازن، فانه يعيش في عصر سلفه عرفات. التحريض الاهم موجود في الشبكات الاجتماعية، وهو لا يأتي من مرجعية. كله يخرج من ابناء الجيل الشاب وموجه له، وهو وحشي وخطير أكثر بكثير من كل كلمة حادة تخرج على لسان ابو مازن، صائب عريقات ورفاقهما. فيه توصيات دقيقة أين تغرس السكين، كيف تعد عبوة الكوع بوسائل شائعة ولماذا يفضل الطعن بابرة مسمومة.
الشباب الفلسطيني لم يملوا فقط ابو مازن وابناء جيله، بل وحتى الفصائل المسلحة، من القيادات التقليدية للكفاح النازف ضد إسرائيل. «اوصي الفصائل إلا تأخذ المسؤولية عن موتي»، كتب بهاء عليان من جبل المكبر، في بوست نشره على الفيس بوك قبل نحو عشرة اشهر من موته. عليان، واحد من القاتلين اللذين نفذا العملية في الباص في حي أرمون هنتسيف، اضاف متوجها لحماس، للجهاد الإسلامي ولغيرهما: «موتي مكرس للوطن وليس لكم».
خيرا تفعل إسرائيل في هذه المرحلة إذا ما تركت ابو مازن لنفسه بدلا من أن تنفس احباطها عليه وتبدأ في الاستعداد لليوم التالي له. فتصيغ لنفسها أوراق جارور، تنفذ تقديرات اجتماعية واستخبارية، وتستعد لسيناريوهات محتملة في الساحة الفلسطينية.
ان رحيل ابو مازن لا يعد فقط نهاية لحياته السياسية، بل وايضا انتهاء لحكم الاباء المؤسسين لـ م.ت.ف. برحيله سينتقل الصولجان إلى ابناء الجيل الوسط. لا جدوى في هذه المرحلة من اطلاق توقعات حول مسألة كيف ستبدو قيادة السلطة بدونه، هل سيتوج قادة م.ت.ف على أنفسهم زعيما واحدا ام سيفضلون مجلسا، هل ستجرى على الاطلاق انتخابات حرة ومتى، وماذا سيكون دور قطاع غزة وقيادة حماس في اللعبة. غني عن الذكر ايضا ان ننشغل ببورصة الاسماء حول هوية البديل. لقد علمنا الواقع الاقليمي بان هذه اللحظات تولد المفاجآت.
لقد كان ابو مازن هو الزعيم الفلسطيني الاول الذي قاد سياسة كفاح غير عنيف ضد إسرائيل واراد الوصول معها إلى اتفاق سلام كامل. هل فوتناه، ولا بد سنتوق له؟ لم تحن بعد الساعة للاجابة على هذا السؤال ايضا، ولكن شيئا واحدا مؤكدا: الجواب منوط ليس فقط بما يقوله الاغيار، بل وايضا بما يفعله اليهود.

معاريف ـ مقال 30/10/2015

جاكي خوجي

حرره: 
م.م