الانتخابات البلدية والسلم المجتمعي

بقلم: 

اختارت الشعوب المتحضرة لعبة الإنتخابات كطريقة تنظم الحياة السياسية في مجتمعاتها ، ولتبعد أي غوغائية تقود إلى إدارة المؤسسات المختلفة فيها، ولتثبيت فكرة التداول السلمي للسلطة كطريقة تحمي لُحمة المجتمعات وتحفظها من الإنشقاق والتشرذم والإقتتال.

لقد كان للشعب الفلسطيني تجارب انتخابية عديدة وفي مجالات مختلفة، فلم تكن مسيرة الإنتخابات في فلسطين مقتصرة على زمن السلطة الفلسطينية، فقد خاض الشعب الفلسطيني انتخابات داخلية متنوعة سواء على مستوى البلديات أو الجامعات أو بعض مؤسسات المجتمع المدني كالأندية والجمعيات الخيرية بأنواعها.

خاض المجتمع الفلسطيني الإنتخابات البلدية في سبعينييات القرن الماضي، وكانت تحدياً بنتائجها لسلطات الإحتلال، فقد أفرزت نخبة من القيادات الوطنية، التي قادت العمل الوطني ووقفت في وجه آلة الإحتلال القمعية، فما كان من تلك السلطات إلاّ البحث عن طرق للتخلص من هذه القيادات بالسجن أو الإغتيال كما حدث مع رئيس بلدية رام الله "كريم خلف"، وبعد ذلك السيطرة على بعض هذه البلديات بتعيين رئيس بلدية إسرائيلي كما حدث لبلدية البيرة التي ترأسها "موريس" اليهودي.

هذه الصورة المشرقة للبلديات كمؤسسات وطنية وكرافعة للمجتمع المحلي يسعى المخلصون للوصول إلى إدارتها وهيئاتها بطرق شرعية ديمقراطية، ثم يلتف المواطنون خلفهم للتغير الواجب في كل مدينة وبلدة حسب حاجاتها، ولم يبخل الشعب الفلسطيني لا بماله ولا بعرقه للنهوض بمجتمعه.

كانت الإنتخابات البلدية عام 2005م، ‏ فرصة للممارسة الديمقراطية من جهة، وللشراكة والبناء من جهة أخرى، بحيث تلونت هذه البلديات بالألوان الفصائلية المختلفة، وتنافست هذه الهيئات بصورة شريفة للرقي والتطور بعد أن تنافست على صندوق الإقتراع بسلمية تامّة، ممّا أتاح الفرصة للجماهير للإطلاع على البرامج الإنتخابية والتعرف على الكتل المختلفة وممثليها، وكانت أجواء هذه الإنتخابات مقدمة صحيّة للإنتخابات التشريعية التي لامست نفس الظروف.

بعد عام 2007م، وبالتحديد أحداث الإنقسام الأليمة، أصبحت نتائج الإنتخابات التي تغنى بها الفلسطينيون وشهد لها المراقبون عرباً وعجماً، ضحية هذا الإنقسام، فقد تمّ حلّ غالبية الهيئات البلدية المنتخبة وتعيين هيئات بديلة لا تمثل نتائج الإنتخابات، ممّا أصاب المواطن الذي أدلى بصوته وشارك في اختيار ممثليه خيبة أمل ويأس. وتبع ذلك ما تبع من أجواء تجعل جزء كبير ممن شاركوا في هذه العملية يفكرون بعدم العودة والتجريب وذلك بسبب الثمن الذي يتمّ دفعه.

كذلك فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو عن الضمانات التي تُقدم سلفاً بعدم التعرض لنتائج هذه الإنتخابات بغض النظر عن نتائجها سواء كانت موافقة أم معارضة، والضمانات تجاه العاملين في الدعاية الإنتخابية بعدم التعرض لهم ومساءلتهم عقب انتهاء هذه العملية.

إنّ الذي ينظر للمجتمع الفلسطيني في السنوات الأخيرة، يعلم تماماً أنّ وصفة الإنتخابات في هذه المرحلة ودون الوصول إلى إنهاء الإنقسام والتوافق الوطني بحده الأدنى، سيكون تعزيزاً للإنقسام وسيزيد من حِدّة الخلافات الداخلية. لن تكون هذه الإنتخابات سبباً في تجديد الشرعيات المختلفة لأنّ البيئة الوطنية تعاني من اختلال في قواعد العمل الوطني الذي لم يصل لأقل مستوى من الإجماع.

إذا كان من الضرورة تغيير الهيئات البلدية الحالية، فمن الممكن تشكيل هيئات من كافة الفصائل مع الإهتمام برئاسة لكل بلدية ذات كفاءة تُجمع عليها الفصائل وتقدم لها كافة الدعم والتسهيلات لخدمة المواطن الفلسطيني، انتظاراً لتغيير البيئة التي تتناسب مع إجراء انتخابات دون نكىءٍ للجراح.