الحجر المانع في حركة فتح!

بقلم: 

          نشأ التنظيم السياسي لخدمة الجماهير ، ونشأت التنظيمات المجتمعية الانسانية على تعدد أطيافها لخدمة المجتمع أو شرائح وفئات منه تلتئم حول احتياجات أو رغبات او أهداف أو قضايا أو أفكار أو توجهات جامعة .
         نشأ (التنظيم) من فكرة التجمع والتوحد حول هدف او حاجة أو اهتمام أو مصلحة عامة ما، وليس من فكرة إحداث الانقسام والتفتت في المجتمع، أي ببساطة لتلبية احتياجات التنوع في إطار التجمع.
      وتكون مجمل التنظيمات ضمن النظام العام (الدولة أو الثورة) في خدمة الهدف المركزي المُجمع عليه، أما إن كان هذا الهدف او الأهداف قد تناثرت أو تشظت أو ذابت فإنه حتما يصبح التجمع التنظيمي بمعنى التكتل بديلا عن فكرة التنظيم الجامعة، وهي الفكرة التي ليس لها إلا خدمة أهداف الجماهير.
      إن خطورة مرض الاتصالات السرية/المستترة  (أي الخارجه عن الإطار الرسمي في التنظيم من خلية فشعبة فصاعدا...) تكمن في إحداث شرخ حقيقي في البنية التنظيمية التي تتكتل وتتجمع وتتحزب مخالفة أدوات الصراع المتاحة ضمن النظام، هذه الأدوات التي تمثل الخطوات التي يبيحها النظام من اجتماعات ونقد داخلي ومؤتمرات ومراجعات ومحاكمات ومساءلات وعقوبات.

بين لينين ويكن وخالد الحسن

          تصيب التنظيمات السياسية الكثير من الأمراض التي عالجتها كافة التنظيمات فكتب فتحي يكن من قيادات الاخوان المسلمين في لبنان عن هذه الأمراض تحت عنوان (المتساقطون على طريق الدعوة)، وكتب الآباء الفتحويون المؤسسون في المسلكية التنظيمية والسياسية والجماهيرية، وكتب الشيوعيون وعلى رأسهم فلاديمير لينين ، كما كتب خالد الحسن عن الاستبداد القيادي ، كما كتب العديد من قيادات مختلف الأطياف والفصائل.
          يذكر لينين من أمراض التنظيمات (الافتقار الى التدريب الجاد والتربية الثورية)، ويعتبر فتحي يكن أن من أمراض الحركات الاسلاموية أن يعتبر صنف من الناس ذاته الوصي على الاسلام والمسلمين من خلال تقزيم الأمة في طريق الخوارج الجدد، واعتبر الفئوية والقبلية والحزبية البغيضة من الامراض. ورغم تعصب  فتحي يكن لرأيه وافتراضه  أن كل من خالفه يتموضع في إطار اولئك المتساقطين إلا أنه تعرض لهذه الامراض بشكل يستحق التامل.
وكتب صخر حبش بحثا كاملا وهاما في النقد والنقد الذاتي، كما كتب هاني الحسن في نقد اتفاقيات أوسلو ما يشكل نموذجا صحيا للنقد دون الإضرار بالتنظيم، وكتبنا الكثير في ذات المنهج ما سنصدره بإذن الله في كتاب قادم.

نموذج حزب جبهة التحرير الجزائرية
في نموذج الصراع ما بين تحقيقه لايجابية تلاقح الأفكار وحوارها، وما بين سلبية تزاحمها وتناطحها على القمة بمنطق الإقصاء والالغاء نتعرض لنموذج من الصراع الحديث في حزب جبهة التحرير الجزائرية إذ أنه: إثر صراع طويل في إطار قيادة الحزب وهي اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الجزائرية أسفر هذا الصراع في أحد مراحله لتسلم عمار سعداني لأمانة الحزب الذي يرأسه شرفيا الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة .

 

وكانت اجتماعات اللجنة المركزية (تماثل اللجنة المركزية في تنظيمات اليسار الفلسطيني، او المجلس الثوري في حركة فتح، أومجلس الشورى في التنظيمات الاسلاموية)، اتخذت هذه الاجتماعات المتكررة منحى صراع عنيف جدا ، ما أدى بهذا الصراع في ختامه لإزاحة عبدالعزيز بلخادم من زعامته بالحزب (من 2011-2013)، وكان ذلك في دورة صعبة للجنة المركزية على عادة الخلافات التي تكاثرت وتصاعدت فيها بين أطراف اللجنة (القيادة)، واستخدمت فيها القوة، كما استخدمت أدوات سلطة الدولة بالمنع أو السماح، و(البلطجة) من جميع الأطراف كما تشير الانتقادات.

لم يتوقف الصراع بعد إزاحة بلخادم حيث استمرت المحاور (بلخادم-سعداني...) في التناطح ما أدى لأصدار رئيس الجمهورية قرارا بعزل عبد العزيز بلخادم من مناصبه الرسمية داخل الدولة.
          هذا العزل لبلخادم من مناصبه حول الرئيس في الدولة من حق رئيس الجمهورية، أما عزله أو طرده من موقعه الحزبي فهنا يقع التساؤل لأقطاب الحزب حيث تورد صحيفة الخبر عام 2014 تعليقها قائلة (ان العنف الذي حمله بيان العزل وشكل الاقالة يظهر استمرار النظام السياسي في التعامل بنفس الاساليب الموروثة من عهد الأحادية ، الى جانب الخلط بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الحزبية ، ناهيك عن توظيف وكالة الأنباء الرسمية في نزاع بين عصبة واحدة كما حدث مع عبد القادر حجار عام 1999 ... ).
وبغض النظر عن مبررات الاقالة أو العزل عام 2014 لبلخادم من مناصبه بالدولة، وطبيعة الصراعات الحادة في داخل الحزب، فإن الاشكالية الحقيقية كما نراها ظهرت جلية بالاستقواء بأطر أوأجهزة أو مؤسسات أو أشخاص (بلطجية) من خارج التنظيم (أو الحزب) ، وحيث تمحورت حول الصراع السلطوي/المصلحي/الشخصي في الدولة والنفوذ  بشكل رئيس، أي  ضمن استمرار حقيقة الصراع حول الحكم والسلطة مستخدمين كل الأسلحة المشروعة أو غير المشروعة، أي تلك التي تتفق مع النظام الداخلي للتنظيم او تلك التي تستقوي عليه.

قدم الامين العام لهذا الحزب التاريخي المناضل عمار سعداني (66 عاما) فيما بعد استقالته أخيرا (22/10/2016) وذلك "لأسباب صحية" كما ذكر، ليخلفه جمال ولد عباس (82 سنة) أمينا عاما حتى العام 2020 كما أقرت اللجنة المركزية، وربما لا يزال الصراع الحاد مستمرا ما لا نتمناه لهذا الحزب العملاق.

 

الصراع في التنظيمات الفلسطينية

إن الصراع في التنظيمات الفلسطينية عامة طويل، ويحتاج لبحث أطول، سواء داخل التنظيمات   اليسارية أو في حركة فتح، او داخل الاخوان المسلمين وفي "حماس" ، والصراع في شكله السلبي التناطحي قد تخالطه أمراض عديدة، ولكنه في شكله الايجابي التحاوري يولد آليه دفع تحث على التغيير، لذا فالفهم للصراع في هذا السياق الايجابي يعني حقيقة التمسك بالجوامع (يسمونها قواسم وكان الراحل القائد صخر حبش يصر على تسميتها جوامع مشتركة وليست قواسم) والأهداف والقانون.

التاريخ طويل للصراعات داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ العام 1967 سواء الفكرية او التنظيمية أو المصلحية الشخصية، كما الحال في الصراعات داخل التنظيمات الاسلاموية ومنها الاخوان المسلمين منذ التأسيس، والحال في حركة فتح.

وإذ كان مفهوم الصراع له معنيين كما ذكرنا أي معنى ايجابي حيث يولد تجددا في الأفكار وتنازلات واتفاقات وحرص مشترك فإنه في جانبه السلبي يولد تناطحات واقصاءات، أحيانا ما تكون مفيدة للتيار العام كما الحال بخروج العديد من جسد الاخوان المسلمين أو من جسد الجبهة الشعبية او من جسد حركة فتح، خاصة متى ما اقترن الصراع بالاستقواء الخارجي.

أمراض التنظيمات وقواعد المسلكية

إن أمراض التنظيمات السياسية كثيرة، وحرصت حركة فتح أن تثبت في منهج تفكيرها التجديدي رفض العقل "الانتهازي" (الذي يستسهل المكاسب ويسعى لها على حساب الأهداف)، ورفض المنطق العقل "التطهري" (الذي يتوقف وينقطع حين تصادم الأهداف مع المصالح فيخرج) وفي المقابل كرست منطق التعامل "الثوري" أي بايجابية من خلال عرض ما يجب أن يكون وخوض الصراع ضد ما تراه سلبيا فيما هو كائن.

تدخل حركة فتح في أدبياتها المرض في نطاق التعامل مع العلاج، أي بذكر السلبي في سياق التركيز على الايجابي محددة عشر قواعد للمسلكية الثورية الصحيحة والصحية في المجال التنظيمي: من الانتماء، والانضباط،  والمركزية الديمقراطية، والنقد والنقد الذاتي، والفعالية، والمبادرة، والسرية، والتخطيط، والتنفيذ والتطبيق، والمتابعة والمراقبة، والتي لطالما شجع عثمان أبو غربية وهاني الحسن من قيادة الحركة على اعادة بنائها وتصليبها وتعديلها بما يضيف عليها ويقويها ما نحاول منذ زمن وقلة من الكادر المثقف والمفكر أن يفعلها ويضيف عليها بما يمتنها ويجددها ليكون تيار القيم والمسلكية الثورية هو التيار السائد.

 

في حركة فتح التي خاضت في داخلها صراعات عدة ، وخاضت مع الأصابع الخارجية عديد المواجهات فإن لديها هاجس الخصوصية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية حتى أصبح ما تسميه (القرار الوطني المستقل) شعارا لها مرتبطا بفكرها الديمقراطي الوطني الحضاري في محيط حضارتنا العربية الاسلامية، إلا أن دخول (السلطة/الحكم) كعامل ومثيرافتتان وفتنة جديد في المعادلة، ومع تقاطعات الاسرائيليين والإقليم والخصوم قد جعل من هذا الصراع معيبا بحق حركة فتح والشعب الفلسطيني، ونحن لم نحقق على الأرض لا الاستقلال ولا الدولة حتى الآن .

 

 

القوة نحن

 

       يقول العلماء حسب آخر الأبحاث إن النملة تنشأ لا تعلم شيئاً ثم تتعلم جميع المهام الواجب القيام بها وفق برنامج شديد التعقيد يهديها إلى الطريق الصحيح، والسؤال: أليس هذا هو ما تعنيه الآية: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)؟! وأليس أدعى بنا أن نركز على العضو في داخل المجتمع والعضو في داخل التنظيم من التصارع حول عنق الزجاجة فقط؟

 

إن القوة الحقيقية التي يجب النظر لها داخل التنظيم السياسي هي في الفكرة وفي الأهداف وفي حراس الفكرة والأهداف، وفلسطين كجامع ووعاء لها كلها، وإن القوة والمنعة هي في تطبيق النظام الداخلي واحترام القوانين والقرارات المتخذة أصولا، والقوة الحقيقية هي في جماهير الحركة المنتمية والملتزمة والمثقفة والعاملة والمبدعة والناقدة باحترام والمتجددة، والقوة كل القوة هي في المساحة المفتوحة للتواصل بين القيادة والكوادر في كل المفاصل وبشكل دوري، والوقوة الحقيقية في الآليات المتبعة التي لا يجب أن نخرقها بل نشدد على حراستها مقرونة بالقيم والتدريب والبناء الذاتي والجماعي الداخلي.

 

       ذكر ابن المقفع في كتاب الشهير  كليلة ودمنة  قصة مفادها أنهم : زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً/حشرة تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد. وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا أنفسكم فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لينصحهم فينهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا ينحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن اليراعة/الحشرة المضيئة  ليسن بنارٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات.
شاهت الوجوه وتبت الأيادي العابثة لأي شخص أو جهة أو فئة تصعّد الخلافات الداخلية في أي فصيل، أو في المجتمع أو في أي مؤسسة وطنية، وعلى رأسها حركة فتح على حساب الهدف الأساسي والتناقض الأساسي المعبر عنه فقط بالاحتلال الاسرائيلي وفي نضالنا لاقتلاعه من أرضنا.

وشاهت وجوه أي فئة ترفض النظام والحكمة والقيم الجامعة، ونحن لن نجرب سيوفنا في الحجر المانع، لكن عودنا ينحني لأخوتنا ويميل لهم فتستقيم الأمور، وسنتعب كثيرا ونخوض الصراع الايجابي لتعتدل الكفة فيتحقق التوازن والقسطاس.

وليس لنا كثوريين مجاهدين مثابرين إلا الدعوة والعمل بحزم للملمة البيت الداخلي الفلسطيني عامة، فنحن تحت الضوء والنظر، وحالنا يختلف كليا عن تلك الخلافات في الدول أو الاحزاب العربية الشقيقة، فهل ندرك ذلك ونتدارك وندفع المسيرة الى الامام.