المصالحة والمقاومة الفلسطينية

بقلم: 

 

 

لم يشهد التاريخ السياسي والدبلوماسي سواء الاقليمي أو الدولي حركات تحرر لم تعتمد بشكل او باخر على القوة المسلحة في تحقيق اهدافها واستثمارها لذلك، حتى المقاومة السلمية التي شهدتها بعض التجارب والمناطق لم تحسم على انها الخيار الوحيد والناجع لتحقيق تقرير المصير للشعوب فهي ليست القاعدة بقدر انها مجرد استثناء واضح يناسب الوضع الذي تعيشه حركات التحرر الوطنية في كل بلد. ذلك ان المقاومة تختلف باختلاف الطبيعة السياسية والعسكرية للاستعمار، فمقاومة الاستعمار الكولنيالي والاحلالي يختلف كلياً عن الاستعمار الذي غرضه فقط مجرد الهيمنة وخلق التبعية الاقتصادية والأمنية والعسكرية، لأي اقليم لصالح البلد المستعمر (بكسر الميم) لذلك فإن المطالبة باعتماد نوع واحد ووحيد من المقاومة ليس ذي جدوى دون النظر الى الواقع الذي تعيشه الشعوب وحركات التحرر في مختلف البلدان .

كما لا يمكن لتلك المطالبة ان تستمر دونما اعطاء اي اعتبار لمدى اهتمام المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي بقضايا التحرر في العالم. فالمبدأ الاساسي هنا هو ان ينظر لحركات التحرروالمقاومة وفقا لما هية الظروف التي تعيشها محليا واقليميا ودوليا. ومن هذا المدخل يمكن معالجة مسألة المقاومة والعمليات التي خاضتها منظمة التحرير الفلسطينية قديماً، والتي تخوضها الفصائل المسلحة في الوقت الراهن ضد الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة.

إن المشكلة لا تكمن ابدا في مسألة الوقف الكلي للعمليات الفلسطينية في الاراضي المحتلة. وانما في الكيفية التي يمكن للفلسطينيين ان يوظفوها في صراعهم المستمر مع الاسرائيليين لمنع السياسات الاسرائيلية من الاستمرار في عمليات الاحلال الديمغرافي والسيادي لصالح اهداف التهويد المتدرج لفلسطين بكاملها. والتي ستشكل نهجا اسرائيلياً هدفه حشر الديمغرافيا الفلسطينية في اصغر بقعة جغرافية ممكنة. وبالتالي تسوية القضية على هذا الاساس، وتبرز اسرائيل نفسها على انها قدمت تنازلات مؤلمة وقاسية تجاوزت نصوص التوراة لصالح عملية سلام اثبتت فشلها لمن يملك مبادئ سياسية على الاقل في الصراع.

اذا تم الاتفاق على الافكار السابقة، فإن جوهر المشكلة يرتكز بالاساس على كيفية ترتيب اولويات السياسة الفلسطينية في المفاوضات المقبلة وكذلك في المصالحة وكيفية التنسيق بين العمل السياسي، الذي يتضمن العمل الدبلوماسي على مختلف مستوياته. وبين اخضاع العمليات المسلحة للعمل السياسي التكتيكي والاستراتيجي. بمعنى ان لا تتحول هذه العمليات الى معيق لأي عمل سياسي او تهدئة ممكنة في اي ظرف من الظروف. وان لا تشكل في نفس الوقت مواقف السياسيين الفلسطينيين الرسمية خاصة اصطفافاً انبطاحياً الى جانب القوى الدولية والاقليمية ضد المقاومة. ذلك ان المقاومة هي المحرك لأي جمود سياسي تشهده المنطقة.

إن المقاومة ليست من ثوابت اي أمة او شعب، الا في مرحلة التحرر وانهاء المطالب المستقبلية لكل اطراف المواجهة والصراع. وعليه لابد من توظيف مختلف اشكال المقاومة المرهونة بتحقيق الانجاز الوطني وفق المرحلة التي يمر بها الصراع. فالتجارب التحررية مع بعض الفروق ارست اشكالا عديدة للمقاومة سواء العمل المسلح، او الدبلوماسية دون اغفال امكانية الاعتماد المزدوج على اكثر من شكل للمقاومة معاً.

 

الحالة الفلسطينية:

في حالتنا اختيار الشكل المناسب للمقاومة من بين الاشكال السابقة، يستدعي فهم مسبق لمدى تأثر الجانب الاسرائيلي بها. وذلك يبرز عبر الرؤية الاسرائيلية والمستقاه من واقع تعاملها مع هذه المقاومة والعمليات على نقاط اهمها:

اولاً، نجحت اسرائيل في اقناع الاطراف الدولية المؤثرة في عملية السلام، بأن العمليات الفلسطينية ليست تحررية بقدر ما هي عمليات تأتي في اطار ازالة وتهديد الوجود اليهودي، معتمدة في ذلك على تصريحات مفادها 'اسرائيل كيان غير طبيعي في المنطقة وهو خاضع للزوال' وان هذه العمليات مستمرة حتى تحقيق العودة للفردوس المفقود خاصة ان احدى اطراف النضال الفلسطيني حركة ايديولوجية ودينية بامتياز 'حركة حماس' مدعومة من دعاة نظرية زوال الدولة اليهودية عن الوجود. كما تستند اسرائيل في حججها الداعمة لذلك التوجه في استمرار العمليات الفلسطينية داخل الخط الاخضر (الذي يتجاوز حدود الرابع من حزيران 1967). اضافة لذلك وظفت اسرائيل الرفض الفلسطيني لإنهاء حالة الصراع وفقا للتسويات التي بدأت في اوسلو وحتى كامب ديفيد الثانية، بأنها حالة يعيشها الفلسطينيون ترغب في بقاء الصراع بانتظار تغيير موازين القوى الدولية والاقليمية. هكذا اظهرت اسرائيل ان الفلسطينيين رفضوا السلام في كامب ديفيد (2001). وبذلك نجحت اسرائيل في افقاد الفلسطينيين البعد التحرري لصالح حشرهم في البعد الايديولوجي والديني البحت.

ثانياً، ترى اسرائيل ان هذه العمليات الفلسطينية تأتي من قبيل 'القتال بقوة منخفضة' ضدها. وهذا ما جاء في مؤتمر هرتسليا بعنوان 'ميزان المناعة والأمن القومي الاسرائيلي'. والذي صدر انذاك في وثيقة هرتسليا ما بين عامي (2000-2001) وقد صاغها اليمين المتطرف في اسرائيل. وفقا لهذه الوثيقة فإن على اسرائيل ان تعتمد قوة ردع عقابية متدنية وعمليات انتقامية ضد القيادات الميدانية التنفيذية، او حتى المس المباشر بالقيادات الروحية الدينية وقد حدث ذلك. وقد ابرزت احداث غزة ان التأثير الفلسطيني على اسرائيل هو تأثير تكتيكي وليس استراتيجيا وهذا من العوامل التي دفعت باسرائيل الى وقف عدوانها على غزة استجابة للضغط الاقليمي.

ثالثاً، استمرار اسرائيل في الربط بين الفلسطينيين وقوى اقليمية معادية لها، وتصوير المقاومة وكانها لا تهدف فقط لتحرير ما نصت عليه الشرعية الدولية، وانما ارتضت تلك الفصائل لنفسها ان تكون اداة تنفيذ لسياسات غير فلسطينية تاتي من ايران، وسوريا ولبنان. وبالتالي بالمفهوم الاسرائيلي يجب على دول عربية اقليمية كمصر ان تحذر من الانجرار ليس وراء اهداف فلسطينية، وانما وراء اهداف تدميرية لقوى خارجة عن دائرة المواجهة المباشرة في الصراع. وعلى المدى البعيد من شأن ذلك ان يحرم الفلسطينيين من تدويل الصراع والدفع به نحو دائرة الفعل ورد الفعل وليس فقط الشجب.

رابعاً، وفي ظل الحديث عن المصالحة الفلسطينية، فإن التصريحات الاسرائيلية بخصوص ان الفلسطينيين لن يحصلوا على مكاسب الا من خلال المفاوضات والتسوية السياسية، تهدف الى زيادة حدة النقاش بين الفلسطينين (القيادة السياسية التفاوضية وفصائل العمل المسلح). مما يكسب اسرائيل الزمن الكافي في اقناع المجتمع الدولي بمبدأ انه قبل مطالبة اسرائيل بعملية سلام مع الفلسطينيين يجب على العالم ان يقنع الفلسطنيين بايجاد قيادة وحكومة شريكة في السلام. وهذا يتطلب حسم الخلاف الداخلي حول اولوية السياسي على العسكري تجاه اسرائيل.

لقد اثبتت التجربة الفلسطينية في التحرر اهمية المواءمة بين العمل السياسي والكفاح المسلح باعتماد قاعدة اساسية مفادها 'ان الكفاح المسلح يزرع والسياسة تحصد' واذا اردنا اجادة التعامل مع هذه القاعدة فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار مايلي: يجب على حركات المقاومة الفلسطينية ان تفهم ان الصراع مع الاسرائيليين ليس لعبة صفرية بمعنى ان تكون الخسارة أو الربح هي عبارة عن معادلة رياضية (1:0) لأحد الاطراف على حساب الطرف الاخر، بغض النظر عن وجود حق تاريخي بالنسبة لموقفنا من اسرائيل فالنتيجة هي مكاسب نسبية. كذلك يتطلب النجاح الفلسطيني في المقاومة ان تثبت المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد ان لا سند ايديولوجي ديني بحت لمقاومتها بقدر ما هي عملية تحرر مشروعة في اطار الشرعية الدولية، فنحن لا نريد صراع من يبيد من؟. واختلاف ميزان القوى يحب اخذه بعين الاعتبار.

وبخصوص المصالحة يجب على كل الاطراف ان تضع وثيقة اليوم وللاجيال الاتية تعتمد ما يتم الاتفاق عليه من، تحديد الحدود الجغرافية، اليات حل الصراع، الوضع الداخلي واعتماد الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وأن تكون السلطة في هذه المرحلية وقبل انهاء المفاوضات، مجرد ادارة داخلية للشأن الفلسطيني. ووضع حد نهائي للعلاقة بين السياسي والعسكري، ووضعية الاجنحة المسلحة للفصائل وتنظيم الأجهزة الأمنية كذلك.

المصدر: 
القدس العربي