الحنكة دِين الشهادة

بقلم: 

إشارة حمراء يعني قف.. صفراء يعني استعد للانطلاق.. وأما خضراء يعني انطلق، عسى أن يكون طريقك أخضر. هذا كان درس صف من الصفوف الابتدائية وتوارث إلا أن أصبح تكتيكا بديهيا تلقائيا هدفه الحفاظ على السلامة العامة.

إلا هذا الرجل المسن صاحب القبعة البيضاء والعكاز المهترئ، فهو أعند بكثير من أن يخضع لقوانين الرموز، أو بالأحرى هو أعند من أن يحافظ على حياته، وعلى روتين محيطه ببقائه.

قطع إشارة المشاة وهي حمراء، ببطء شديد غير إرادي، ورغم همجية سير السيارات واثقة الخطى بضوء أخضر، إلا أنه وأخيرا قد نجا بأعجوبة بالغة.

وهذا حال الشعب الفلسطيني العنيد، يملك إصرارا كبيرا، واندفاعا جبارا للوصول للناحية المقابلة رغم صعوبة الطريق، ورغم الإشارة الحمراء، فهو يملك من الوعي والإدراك ما يجعل منه شعبا خُلقَ لهدف جليّ، ولطالما عرف الهدّاف سبيله وتعامل مع عثراته وتقلباته بذكاء وحنكة وتخطيط، فلا غبار عليه إذن.. وهذا هدفي أنا.

استوقفتني مقولة يخيل لي أنها معروفة،  لنابليون بونابرت كنت قد قرأتها لا أعرف أين، ولا تحت أي عنوان. تقصد هذه المقولة بما معناه: أن الموت لا يجعل من الفرد شهيدا .. وإنما القضية من تجعل منه شهيدا. صدقت يا نابليون..  فالموت ليس هدفا بحد ذاته إلا إذا كان انتحارا ... !
وتحت عباءة الانتفاضة الثالثة، أو انتفاضة القدس، تعج وسائل التواصل الاجتماعية لا سيما الفيس بوك بكلمات وصور وفيوديوهات وأغاني ومصطلحات لا تخاطب إلا العاطفة ولا تصدر إلا من العاطفة. والمواطن الفهلوي والوحيد الذي يعاني من هذه الخلطة الفيسبوكية، هو الذي يبذل جهدا بالغا ليتعامل مع هذه الرسائل بعقل وحكمة ما استطاع إليه سبيلا.

لن أطرح أمثلة أبدا في هذا السياق حتى لا أجند عاطفتكم، وأوقع بنفسي في مأزق سوء الفهم اللامناص منه، بل يكفي أن أصف حالتي وأن أرى هذا المسن الطيب الذي قطع الاشارة وهي حمراء واضحة كوضوح الشمس، والذي افقدني صوابي وأنا استدعي له (يا رب ما يموت)، فإن مات هو ليس ببطل، وبما أنه بقي على قيد الحياة فهو أيضا ليس بخارق.. ولكنها صدفة جميلة.

في الاونة الأخيرة داومت مواقع التواصل، وعلى سبيل المثال لا الحصر (الفيس بوك)، بمجموعاتة الافتراضية النشطة، داومت على نشر نصوص بأساليب كوميدية لطيفة، تحمل بين سطورها وصف دقيق للواقع الفلسطيني  والمقدسي الحالي تحت سطوة وجبروت الاحتلال مغتصب الأرض وقاتل الابن، وكيفية التعامل مع جنود الاحتلال المستنفرين في كل شبر للحفاظ على الروح الغالية جدا، ومنها ما قالت:

عندما تسير في الشوارع.. كن مستعدا.. اربط الهوية برقبتك..

امشي وانت رافع يديك عاليا .. وابدا لا تضعهم في جيب البنطلون لكي لا يهيئ لهم أنك ستستخرج السكين من جيبك فيعدموك..

اذا سقط منك شيء لك منك على الأرض لا تلتقطه ابدا لكي لا يهيئ لهم انك تخدعهم لتلقط سكينا فيعدموك..

لا ترد على اي اتصال ولا تحاول أن تمسك البلفون لكي لا يراه الجنود سكينا فيقتلوك..

وعلى هذا المنوال الكثير من المنشورات بأساليب ساخرة ضاحكة، ولكنها حقيقية فالوضع قد وصل فعلا إلى هذا الحد من الاستنفار، وصل إلى حد القتل لمجرد الخيالات والتهيؤات، فهذه ليست مزحة من مزحات الفيس بوك.

فالفهد إذا تعثر بالطريق ووقع تكثر سكاكينه.. وكذلك الفلسطيني الأعزل، ولربما لا أقصد أعزل السلاح فقط.