تفجيرات باريس.. المرحلة الأسوأ بدأت

بقلم: 

  تثير موجة التفجيرات الهمجية، التي ضربت باريس ليل الجمعة الماضي التعاطف الإنساني والتضامن في وجه هذا النوع من الهمجية، التي تستهدف القتل بدوافع الكراهية والتعصب بالدرجة الأولى. ظاهرياً وعلى السطح، فإن هذا النوع من الإجرام بات يوحد العالم، فالكل يدينه وبأعلى الأصوات، والكل يتفق على محاربته، لكن التفكير في النتائج المحتملة لهذه التفجيرات يقودنا إلى نتائج خطرة أبرزها:

تكريس العداء للمسلمين والعرب في أوروبا والعالم: على نحو متشابه، أثارت تفجيرات باريس موجة عداء فورية للمسلمين في فرنسا وأوروبا بأسرها تماماً مثلما جرى في الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2011، لكن رد الفعل هذه المرة سيكون أكبر بكثير وبشكل غير متوقع. لن تشهد فرنسا هذه المرة أي تظاهرات تسعى للتفرقة بين الإرهاب وبين الإسلام مثلما جرى بعد الهجوم على مجلة «تشارلي أيبدو» في يناير الماضي. يمكن القول وببساطة: إن المسلمين والعرب استنفدوا كل مخزون التعاطف في أوروبا والعالم. لا يمكن المحاجة الآن بهذه الصرخة العاجزة: «هذه الأعمال لا تمثل الوجه الحقيقي للإسلام» لأن سجل الإرهاب الذي ضرب أوروبا بإسم الإسلام بات مليئاً وحافلاً منذ تسعينيات القرن الماضي. فالفرنسي والأوروبي عموماً لا يرى من الإسلام إلا ما يعايشه في بلده من ممارسات المهاجرين العرب والمسلمين. والمؤسف أن الشيء الوحيد الذي سيراه هو سجل طويل وحافل من التفجيرات والقتل وأعمال التعصب الأعمى على امتداد عقد التسعينيات من القرن الماضي وصولاً إلى العام 2015.

لقد تحولت قضايا «الإسلام» و«المهاجرين» و«الإرهاب» إلى قضايا داخلية في فرنسا ومعظم دول أوروبا منذ سنوات، لكن الفارق الآن هو أن هذه القضايا ستجيش رأياً عاماً لن يصمد أمامه تراث الليبرالية الأوروبية ولا قيم التسامح والإخاء الإنساني وحقوق الإنسان، فالهجمات كرست العداء للإسلام والعرب والمسلمين بشكل لا يتزعزع.

 

موجة إرهاب شبيهة بصعود إرهاب القاعدة بعد 2003: تعيد تفجيرات باريس وبيروت ومن قبلها اسقاط طائرة مدنية روسية فوق سيناء، وجميعها عمليات تبناها تنظيم «داعش» تذكيرنا بموجة عمليات متلاحقة، تبناها تنظيم «القاعدة» أو نسبت له وضربت عشرات العواصم العربية والأوروبية في السنوات القليلة، التي تلت الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.

الحقيقة الثابتة الآن هي أن غزو العراق واحتلاله دشن المرحلة الثانية من «عولمة الجهاد»، الذي كان يقوده تنظيم «القاعدة» منذ تسعينيات القرن الماضي تحول معه التنظيم إلى ماركة مسجلة للإرهاب في العالم. الأمر  نفسه يجري الآن مع تنظيم «داعش» الذي أصبح مسؤولاً عن أي عملية إرهابية أو إطلاق نار في أي مكان في العالم. يطرح هذا تساؤلات جدية عن الكيفية، التي يستطيع فيها تنظيم إرهابي مثل "القاعدة" ومن بعده "داعش" من أن يكون قوة ضاربة على مستوى العالم في مسرح واحد تقريباً: الدول العربية وأوروبا.

لا تبدو الأجوبة المعتادة حول سهولة التجنيد عبر الإنترنت وانتشار الفكر المتطرف قادرة على تقديم جواب يفسر استيلاء «داعش» على ثاني أكبر مدن العراق بسهولة ويسر، والسيطرة على حقول نفط ومساحات من بلدين متجاورين، ولا النزاعات التي يشهدها العراق وسوريا وضعف الدولة فيهما، فصعود "داعش" قوبل بتردد غربي في مواجهته، بل إن التنظيم ترك له من الوقت ما سمح بتمدده، وتعاظم مصادر قوته.

 

الكيل بمكيالين والانفصام الأخلاقي: تظهر موجة التعاطف الفورية والجياشة مع ضحايا تفجيرات باريس والإدانات الواسعة له خللاً أعمق في النظر إلى الإرهاب، حيث بات التغاضي عن تفجيرات مماثلة أمراً طبيعياً. والمثال هنا شاخص وهو تفجيرات "برج البراجنة"، التي جرت في بيروت قبل تفجيرات باريس بيوم واحد فقط. لا يمكن التغاضي عن تفجيرات "برج البراجنة" بحجة أنها رد فعل طبيعي على تدخل حزب الله في سوريا ومجازر المدنيين في سوريا، فميزان الأخلاق يفرض أن إدانة قتل المدنيين في سوريا أياً كان من يقف وراءها لا تبرر القيام بالمثل.

وعلى نحو متكرر تتجدد الصيحات بعد كل عملية تفجير عن ضحايا مجازر منسية لم تأخذ حقها من الاهتمام والتعاطف في هذا البلد أو ذاك، وتنشط الحرب الدعائية بين السنة والشيعة على وسائط التواصل الاجتماعي في تبادل الاتهامات وتوظيف التفجيرات، ضمن رؤية طائفية ضيقة وموجة تشفي متبادلة تبرهن من جديد على انحدار التجييش الطائفي إلى أدنى درجات التردي القيمي. الحقيقة أن كل هذا الجدل يمثل استجابة لمنطق الإرهاب وتبرير له وهذا هو الأخطر. وثمة مثل مرجعي للكيل بمكيالين يشهر في وجه الغربيين يتمثل في موقف الدول الغربية من المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. نادراً ما تصف الدول الغربية الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حروبها ضد الفلسطينيين بأنها "إرهاب"، بل إن بعض هذه الدول تساوي بين الضحية والجلاد دوماً.

جهاد في خدمة شمعون بيريز: يبدو هذا الإصرار على ربط الإسلام بالإرهاب والقتل الأعمى جهداً دؤوباً لتكريس تكهنات شمعون بيريز المبكرة عام 1991 غداة انهيار الاتحاد السوفييتي عندما قال إن «الإسلام هو العدو الجديد للغرب». إصرار عز نظيره على تحقيق هذه النبوءة أبداه تنظيم "القاعدة"، ويبديه الآن خليفته الأكثر همجية تنظيم "داعش" ومشايخ الفضائيات و"الواتس آب".