معبر رفح والرواتب.. الوجه الآخر للقضية

بقلم: 

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بـ "هاشتاج" طالب به مواطنو غزة من حركة حماس تسليم معبر رفح البري إلى السلطة الفلسطينية استكمالا لإجراءات فتحه كشرط وضعته مصر لذلك، ثم ما لبثت أن تحولت هذه المطالبة لنقاش عبر تلك المواقع بين مؤيدين و معارضين، مدافعين و مهاجمين، بين أسباب مقنعة و أسباب غير مقنعة حتى وصل الحال بنهاية المطاف ليخرج الأمر لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة، خرج على إثره بعض السياسيين ليتبادلو الاتهامات حوله و يوضح كل طرف رؤيته و موقفه، لتعود للناس حالة الإحباط من جديد.

إننا و بالحديث عن المعبر فإننا نتحدث بلا شك عن الخلاف الفلسطيني القائم بين السلطة و حركة حماس و مطالبة السلطة لحماس تسليم المعبر، و مطالبة حماس للسلطة تبني موظفي غزة و دمجهم في أماكن عملهم و دفع الرواتب لهم، لكن هل هذه هي حقيقة الخلاف؟!

إن حقيقة الخلاف ليست بهذه البساطة، فهناك أزمة ثقة حقيقية بين الطرفين تجهض أي مبادرة تطرح للحل قبل خروجها للنور، و هنا وجب العودة للوراء قليلاً لرؤية الصورة بشكل أكبر و أوضح.

في العام 2006م و بعد انتخابات تشريعية -شهد العالم بنزاهتها- أفرزت هذه الانتخابات عن نتيجة صاعقة للكل حتى لحركة حماس، إذ أنها وجدت نفسها تحصد الحصة الأكبر من مقاعد المجلس التشريعي ما يعني مطالبتها بتشكيل الحكومة، و هذا ما فعلته الحركة ليكون رد فعل المجتمع الدولي هو الاستمرار في مقاطعة الحركة و لكن هذه المرة كونها ممثل للشعب الفلسطيني، هذه المقاطعة امتدت لتشمل الدعم المالي الذي كان يصل للسلطة و الذي كان يمثل الجزء الأكبر منه رواتب للموظفين، و توقفت رواتب الموظفين و موازنة الحكومة بشكل عام لتبدأ هنا أزمة الرواتب الأولى، صبر الموظفون لكن صبرهم لم يدم طويلاً حتى خرج بعضهم لتهديد الوزارات في حالة لم تدفع الرواتب، و بعد مشاورات فلسطينية داخلية أسفرت عن تشكيل حماس لحكومة جديدة تشمل إعادة توزيع الحقائب الوزارية بما يحقق إجماع وطني، لم تلبث هذه الحكومة كثيراً حتى أقيلت في العام التالي 2007م إثر قرار رئاسي بعد أحداث غزة المؤسفة في ذلك العام، حماس وجدت نفسها هذه المرة لا تشكل حكومة فقط، لكن حكومة بموظفين جدد إثر رفض موظفي السلطة العودة لعملهم بعد قرار رئاسي يقضي بذلك مع الإبقاء على رواتبهم التي كانت تصرف من حكومة د. سلام فياض. حماس كانت قد وظفت عدد كبير من الموظفين في غزة لسد الفراغ و كانت تدفع لهم رواتب من إدارتها لغزة بشكل منتظم لحد ما، حتى تغير الحال في مصر لتدخل بعدها في أزمة عجزت فيها عن استيفاء دفع الرواتب.  لكن و بعد كل ما جرى من أحداث لعدة أعوام و بعد محاولات عدة للمصالحة، تفاجئ الجميع باتفاق الشاطئ و بقرار تشكيل حكومة وفاق وطني، كان لذلك ردود فعل مختلفة حتى من إسرائيل.

لكن هل كان اتفاق الشاطئ اتفاق حقيقي و واضح المعالم؟ و لماذا لم ينجح و اكتفى كسابقاته بكونه حبر على ورق؟ و لماذا لم يلتزم كل طرف بما عليه؟ و هل كان تسليم معبر رفح أحد بنود الاتفاق؟ و هل على حماس تسليم المعبر؟ و ماذا هناك في مقابل التسليم؟
بالطبع لا، لم يكن الاتفاق بذلك الوضوح و لم يكن تسليم المعبر أحد شروط الاتفاق، و إنما كان أحد أهم البنود هو الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية سرعان ما تبين أنها لا شيء في غزة، و سرعان ما تنكرت حكومة الوفاق لرواتب موظفي غزة الذين أصبحوا جزء من هذه الحكومة، و بالتالي فشل الاتفاق في تحقيق أي شيء على الأرض و لم يلتزم أي من الأطراف بما عليه.

و لهذا كان يجب توجيه الأسئلة للسلطة الفلسطينية بنفس الوتيرة التي توجه فيها الأسئلة لحركة حماس، وهي كالتالي: ألم تتنازل حماس عن الحكومة في مرتين و أطيح بها مرة، إلى أي حد ستبقى السلطة تطالب حماس بالتنازل؟ ألا يجب إعطاء حركة حماس مقابل لتنازلاتها السابقة و كدافع لجعلها تتنازل هذه المرة أيضاً؟ أليس لنا في رسول الله قدوة بأنه -صلى الله عليه و سلم- تنازل في صلح الحديبية عن دخول مكة معتمراً في مقابل تعهد بالعودة العام المقبل؟ ألا يستحق موظف يعمل منذ قرابة العامين بلا مرتب -دون كلل أو تمرد أو إطلاق تهديدات- أن يتم الاعتراف به و إعطاءه حقه؟ لماذا تصر السلطة على فكرة إبعاد حركة حماس من الحياة السياسية بإصرارها على مواقفها و تعنتها في وجه الحركة المنتخبة؟ لماذا لا تقبل السلطة بحركة حماس كشريك وطني حتى لو اختلفت معه في وجهات النظر؟ ألم يكن من الخطأ رفض السلطة عودة الموظفين للعمل بدلاً من ابعادهم عن وظائفهم و أعمالهم؟ كيف يمكن فهم تصريح رئيس السلطة بأن لن يدفع رواتب موظفي غزة حتى لو توافرت؟

في المقابل و بعد ما تم طرحه على السلطة من أسئلة كان لابد من فعل ذات الشيء مع حركة حماس: هل نسيت حركة حماس الاتفاقات التي وقعتها السلطة مع المجتمع الدولي الرافض لها و الذي سيضع السلطة في أزمة في حال شراكتها مع حماس كما حدث في الماضي؟ هل كان خروج  قيادات السلطة و بعض عناصرها من غزة أمر مستحسن أم سيء؟ ألم يجنب هذا الخروج الموصوف بالفرار الشعب الفلسطيني في غزة ويلات كان من الممكن حدوثها لو قرر هؤلاء البقاء و الاستمرار في مسلسل الدم الذي كان في العام 2007م؟ ربما يقول البعض أنهم كانوا سيهزمون -مع تحفظي على التعبير- لكن هل حسبت أيها القائل فاتورة هزيمتهم كم ستكون -ربما كانت عشرات ألاف القتلى و الجرحى كما يحدث يومياً في الدول العربية-؟ لماذا لا تخرج حماس للشعب لتوضح طبيعة ما تم الاتفاق عليه في القاهرة والشاطئ -بشكل يقطع الشك فيها- كونها تتمسك بما جاء فيهما؟ ثم هل يلام موظف السلطة على تلقي راتب في مقابل ابتعاده عن عمله؟
الأسئلة كثيرة ولا تنتهي ولكننا بحاجة للإجابة، رسول الله -صلى الله عليه و سلم- كان واثقاً من اتفاقه مع سهيل بن عمرو كون العرب عُرفت فيما مضى بحفظها للعهود والوعود، وهذا ما أصبحت تفقده حركة حماس في السلطة الفلسطينية كونها ما عادت تثق فيها، وعدم الثقة هذا نابع من فكرة عدم قبول الحركة التنازل في كل مرة وإحساس الحركة أن السلطة تعاملها بنفس السياسة الإسرائيلية القائمة على المطالبة بالمزيد والمزيد من التنازلات في مقابل لا شيء، وأيضاً من فكرة أن السلطة تحاول إزاحتها بالكامل من الحياة السياسية.

إن ما على السلطة فعله هو تفهم حماس كشريك وطني و ليست عدو يجب مقاومة مطامعه كما هو الحال مع إسرائيل، وبالتالي يجب عليها إعادة بناء جسور الثقة مع حماس وأن يسعى الطرفان لإيجاد نقاط الالتقاء بينهم بعيداً عن النقاط الخلافية، وتحملهم لتبعات الانقسام الفلسطيني سوياً، كما على حماس أن تعي الأخطاء التي وقعت فيها والتي جلعت الانتقاد موجه إليه أكثر من اللازم، فلا يعقل أن تلجأ الحركة لمهاجمة خصومها في سبيلها للدفاع عن نفسها، هذا المبدأ قد ينجح في كرة القدم لكنه وعلى العكس في السياسة لابد من محاولة جر خصمك لنصف ملعبك لجعله يتفهمك أو يرضخ لك.

لا يلام موظفي السلطة الفلسطينية على تلقي رواتبهم، فهم لم يجلسوا في بيوتهم من تلقاء أنفسهم إنما جلسوا بأمر من قيادة السلطة، و إنما يأتي اللوم عليهم من مبدأ أن هذا الوطن له قضية تختلف عن كل الأوطان و العمل فيه لا يجب أن يكون مقابل انتظار أجر عليه و بالتالي كان يجب عليهم تفهم موقف حماس من المطالبة بعودتهم و الرجوع كما فعل الكثير منهم، و هذا ما كان يرجوه عرفات عندما عاد بالسلطة لفلسطين عام 1994م مع إصراره على دفع رواتب الموظفين حتى أخر لحظات حياته وضمن وصيته عندما كان في فرنسا، بغض النظر عن الدخول في جدال حول هدف موظفي حماس من الاستمرار في العمل، لكن و للإنصاف وجب شكرهم وتقديرهم على موقفهم، و متابعتهم لعملهم دون حصولهم على حقوقهم، بل يجب من الجميع الوقوف بجانبهم للمطالبة بحقوقهم و دمجهم ضمن منظومة المؤسسات الفلسطينية. أما مناقشة موضوع كيفية دمجهم فهي ليست بتلك المسألة التي تستحق مثل هذا التضخيم المبالغ فيه كون الأمر مقتصر على غزة فقط دون الضفة، فهناك أطروحات وردت من جهات خارجية مثل الورقة السويسرية، و أطروحات داخلية كتلك التي عرضتها الفصائل، و بغض النظر عن الألية التي ستتبع لحل الأزمة فإن الحل ممكن و ليس بذلك التعقيد.

ثم نأتي للنظر إلى قضية الوحدة فالحل دائماً موجود في صلب المشكلة لكننا لا نبحث عنه، التنسيق الأمني و الانتفاضة الفلسطينية هما السبيل لحل هذه الأزمة في حالة رفض إسرائيل و المجتمع الدولي لفكرة الوحدة الوطنية الفلسطينية و تبني الحل، كيف لا نرى ذلك إذا كنا قادرين على إمساك إسرائيل من يدها التي تؤلمها و هي "الأمن" بهاذين الأمرين، فإسرائيل تخشى من أن تتطور الانتفاضة الفلسطينية لتستطيع توجيه ضربات داخل العمق الإسرائيلي بعمليات نوعية كما حدث في الانتفاضة الثانية، و بالتالي السلطة ستكون قادرة على اللعب بورقة إيقاف التنسيق الأمني و ترك الباب للشباب الفلسطيني الثائر لتوجيه مثل تلك الضربات و هنا سيكون على إسرائيل الاختيار بين الوضع الفلسطيني الجديد و بين أمنها؟ هنا فقط نكون هزمنا إسرائيل -في عقر دارها- سواء بضربها أو بتوجيه الرأي العام الإسرائيلي لخطورة الموقف و سنراه يتحرك عكس الحكومة و في كلا الحالتين ستكون الإجابة الإسرائيلية سهلة و هي اختيار "الأمن".

الآن و أرجو أن تكون الصورة و قد اتضحت أكثر، فإننا نأتي لنوصي بما يلي:
1. ضرورة الإسراع في ملف المصالحة والوحدة الوطنية كون الوقت غالباً ما يكون عدو الحل، خصوصاً و أننا ننتظر في الفترة القادمة انتخابات أمريكية جديدة قد ندفع ثمن نتيجتها و تأخرنا في الحل غالياً إذا اسفرت عن فوز مرشح مثل "دونالد ترامب" الذي يُكِن العداء للإسلام -الذي تشكل المنطقة العربية بؤرته-، و الذي لن يتوانى كعادة السياسة الأمريكية في دعم إسرائيل لكن هذه المرة بشكل عدائي واضح للعرب.

2. ضرورة أن يكون أي اتفاق قادم واضح و مفصل بشكل كبير و كافي لفهمه، و أن يعرض أمام الشعب باعتباره الحكم الأعلى بين الطرفين.

3. ضرورة الذهاب إلى انتخابات رئاسية و تشريعية جديدة، وتقبل ما ستسفر عنه، و العودة للتركيز أكثر على القضية الفلسطينية بدلاً من القضايا الداخلية، في ظل ازدحام القضايا الذي تعيشه السياسة العالمية.

4. ضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية و المؤسسات التابعة لها على أساس مشاركة الجميع دون استثناء، و إعادة صياغة المشروع الفلسطيني بما يضمن تحقيق كل من المتطلبات الحالية و الأهداف المستقبلية.