سوريا… النهاية

صورة توضيحية

بقلم يوسي ملمان

في قسم الاستخبارات العسكرية للجيش الإسرائيلي توقفوا عن استخدام اسم «سوريا» لتعريف المنطقة الجغرافية والكيان القائم وراء الحدود الشمالية في هضبة الجولان. لا يوجد بعد اسم بديل ـ البحث عنه مستمر والاقتراحات ستُقبل باستحسان. من ناحية الاستخبارات الإسرائيلية فان سوريا غير موجودة كدولة: البيضة التي تحولت إلى عجة لا يمكنها أن تعود بيضة.

أحد الاقتراحات هو تسميتها «شام»، الامس العربي الكلاسيكي الذي يعني «شمال». بعد الاحتلال العربي للمنطقة من أيدي الامبريالية البيزنطية في القرن السابع استُبدل الاسم سوريا (الذي مصدره من اليونانية، وهو موجه للمسيحيين الآشوريين الذين عاشوا ويعيشون إلى الآن كأقلية مطاردة) باسم عربي. كلمة «شام» توجد في اسم داعش ـ «الدولة الإسلامية للعراق والشام».

سوريا ليست وحدها. ففي الاجهزة الاستخبارية بدأوا منذ زمن الاستعداد للواقع الجديد في الشرق الاوسط، حيث تحولت الفوضى إلى نظام جديد. على الخرائط يرسمون تواجد المليشيات والتنظيمات دون التطرق للدول. فبدل الدول القومية، تنشأ عشرات التنظيمات ذات المصالح المختلفة. احيانا تكون هذه المصالح متعارضة واحيانا متوافقة. وهكذا تنشأ التحالفات الآنية.

في الماضي تجمعت في الاستخبارات العسكرية معلومات عن القادة، الذين كان الوصول اليهم سهلا نسبيا. الآن بدل القادة المعروفين يوجد بارونات حرب المعلومات عنهم ضئيلة. مثلا أبو بكر البغدادي، وهو استاذ للدين من العراق، عمره 44. هو زعيم داعش ونصب نفسه خليفة للدولة الإسلامية. ولا يُعرف عنه الكثير.

الماضي لبعض زعماء التنظيمات غامض. فهم يعيشون في الخفاء ومعرفة صفاتهم جزئية. مثل محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة التي تعمل في سوريا وتسيطر على اغلبية المنطقة الحدودية مع إسرائيل. احيانا لا يكون لدى الاستخبارات العسكرية صورة واضحة عن الشخص الذي يتم جمع المعلومات عنه، مثل أحد السكان البدو من سيناء الذي يسمى أبو إمام الانصاري، الذي يعتبر زعيم مجموعة أنصار بيت المقدس الإرهابية التي تعمل في شبه الجزيرة وأدت يمين القسم للبغدادي في بداية 2015 وغيرت اسمها إلى مقاطعة سيناء للدولة الإسلامية.

السلطة المحلية

خارطة سوريا كما عرفناها حتى آذار 2011 ملونة بالالوان التي تمثل التنظيمات والجماعات المختلفة التي سيطرت على أجزاء منها. الجهات الاربع القوية هناك هي الجيش السوري ومليشيات المتطوعين التي أقامها النظام بالهام من الباسيج (قوة مقاومة) في إيران وداعش وجبهة النصرة والاكراد.

184 ألف كم (تسعة اضعاف مساحة إسرائيل بحدود 6 حزيران 1967) هي مساحة سوريا. والاسد يسيطر في هذه الاثناء على 20 بالمئة منها فقط. في الاستخبارات العسكرية يسمون هذه الاراضي «سوريا الصغيرة» وهي تشمل العاصمة دمشق وحمص والشاطيء وميناء اللاذقية وطرطوس وجنوب هضبة الجولان.

جبهة النصرة تسيطر على 10 ـ 15 بالمئة من الاراضي. وبالذات في هضبة الجولان (بما في ذلك القنيطرة)، وفي الشمال (إدلب وحلب). أنشئت جبهة النصرة بمبادرة من أبو بكر البغدادي، وبعد اندلاع الحرب الاهلية بدأت بارسال المتطوعين لمحاربة الاسد.

البغدادي ما زال يعتبر «الأمير» ـ زعيم القاعدة في العراق. ومن اجل اعطاء جبهة النصرة صفة تنظيم محلي، فقد عين الجولاني زعيما. بعد بضعة اشهر، في نهاية 2011 وبداية 2012، وبعد رفض طلبه بالخضوع الكامل، رفع زعيم القاعدة د. ايمن الظواهري رعايته عن البغدادي وسلب منه لقب «الأمير». البغدادي نصب نفسه خليفة وأعلن عن اقامة خلافة داعش. والجولاني بقي مواليا للقاعدة.

في بداية الطريق فجر نشطاء النصرة السيارات المفخخة في دمشق. الاسد الذي قمع معارضيه بالقوة زعم أن الحديث يدور عن القاعدة. في الغرب رفضوا تصديقه كما لم يصدقوا ادعاءات معمر القذافي حول المتمردين في ليبيا. وقد تبين فيما بعد أن القذافي والاسد كانا صادقين بتحميل المسؤولية للقاعدة. اليوم ليبيا ايضا مقسمة وفيها يسيطر داعش على مدن ومناطق كثيرة.

داعش هو الاكثر حضورا بين المتمردين الذين يحاربون الاسد ومؤيديه ـ حزب الله وإيران. وقد سيطر داعش على نحو 80 ألف كم من الاراضي السورية سابقا. جزء كبير من هذه الاراضي صحراوي ويعيش فيه 7 ملايين نسمة. عاصمة الخلافة هي مدينة الرقة. في مناطق داعش توجد علامات الحكم: يتم اخلاء القمامة من الشوارع، وأقيمت محاكم شرعية (حسب الشريعة الإسلامية في القرن السابع والثامن) وفتحت المدارس والشرطة تتجول في الشوارع. هنا يكمن الفرق بين جبهة النصرة وداعش: لا يوجد للنصرة مزايا السلطة. وفي داعش يؤمنون بالخلافة ويعملون على اسقاط الانظمة لاستبدالها. الجهتان تركزان على تنفيذ العمليات لقتل أكبر عدد من الناس.

الاكراد يسيطرون على 15 بالمئة من الارض السورية. وقد نجحوا في اقامة حزام مستقل في شمال شرق الدولة، وبدأوا في ارسال المجموعات باتجاه الجنوب لتهديد الرقة. في داعش قلقون جدا من هذا الامر والصور الجوية تظهر أنهم مستعدون للدفاع عن المدينة بما في ذلك حفر الخنادق والاستحكامات.

باقي الأراضي التي تبلغ 10 بالمئة تسيطر عليها عشرات التنظيمات والعصابات الصغيرة التي تتغير اسماءها باستمرار مثل ما كان ذات مرة جيش سوريا الحر.

50 شكل للاسود

عند الحديث عن داعش يصعب الفصل بين ما يحدث في العراق وما يحدث في سوريا. وبسبب هذا فإن الاستخبارات العسكرية تفحص حركة داعش وما تنفذه في العراق وسوريا، كفكرة. وفي الساحتين كبح تقدم التنظيم. ففي سوريا فقد التنظيم مؤخرا 9 بالمئة من المناطق التي سيطر عليها في معاركه مع الاكراد وجبهة النصرة. وفي العراق هُزم امام الاكراد في كركوك، وأمام مليشيات شيعية في تكريت. حسب تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية فان داعش فقد في المعارك، ولا سيما بسبب الهجمات الجوية، نحوا من 15 ألف مقاتل من مقاتليه.

ورغم التقدير أن داعش في تراجع، إلا أنه ما زال يحافظ على قوته. عنده حوالي 50 ألف مقاتل معظمهم من السكان الذين يعيشون في مناطق سيطرته، وما زالت قوة جذبه كبيرة رغم تراجعه في أعقاب ما يبدو أنه تغيير في السياسة التركية.

بعد اربع سنوات من غض الطرف من اردوغان نحو داعش، ودخول المتطوعين من اوروبا وآسيا وافريقيا في طريقهم إلى سوريا، يتم كبح هذه الظاهرة. في الاسابيع الاخيرة تم اعتقال مئات المتطوعين من أرجاء العالم في المطارات في تركيا وهم في طريقهم إلى سوريا، وتمت اعادتهم إلى بلادهم، ومنهم اثنان أعيدا إلى إسرائيل: عربي إسرائيلي من الرملة، وفلسطيني من القدس الشرقية. وقد اعتقل الاثنان من «الشباك» وشرطة إسرائيل وقدمت ضدها لوائح اتهام.

اردوغان يسمح للطائرات الأمريكية بالعمل من مطار في تركيا، الامر الذي يُسهل المهمة. سلاح الجو التركي بدأ هو الآخر بمهاجمة سوريا لكن اهدافه هي فقط مواقع الاكراد الاتراك. وقد اعلنت تركيا عن اقامة منطقة امنية ـ حزام يمتد على حدودها بطول 100 كم وعرض 40 كم. وردا على ذلك بدأت جبهة النصرة بالانسحاب من المنطقة حتى لا تتصادم مع الجيش التركي.

الهدف الرئيس للسياسة الخارجية والامنية لتركيا هو الجماعات السرية الكردية، ومنع اقامة كيان كردي مستقل في سوريا. وهدف آخر ثانوي هو اسقاط الاسد. في داعش يخشون من اجراءات تركيا الجديدة، ومن هنا بدأوا مؤخرا في نشر منشورات تُبين نيتهم احتلال اسطنبول.

رغم التطورات المختلفة، فان داعش هو ظاهرة ملفتة لن تختفي. وتشهد على ذلك الاغاني التي يؤلفونها في العالم العربي عن سيارات الجيب التي ترمز للتنظيم، والتي بمساعدتها طور داعش استراتيجية الحركة السريعة ـ الامر الذي يُذكر باغنية «هاي الجيب» من حرب التحرير. وفي الماضي سمعت ايضا اغاني عن الجمل الذي استُبدل بالتندر الذي يرفرف عليه علم داعش الاسود. يمكن الحديث عن 50 نوع من الاسود: تنظيمات إسلامية مختلفة لم تقدم الولاء لداعش، ترفع ايضا العلم الاسود.

الاكراد أثبتوا أن الطريقة الوحيدة لوقف تقدم داعش هي الحرب على الارض. الهجمات الجوية حتى لو كانت شديدة جدا فهي لا تكفي. وقد بلغ عددها 6 آلاف هجمة في الاشهر العشرة الاخيرة، وهذا ضئيل. أما سلاح الجو السوري فقد نفذ 7 آلاف طلعة في تموز فقط، وألقى براميل المتفجرات اثناءها.

ضعف الولايات المتحدة يثير الجدل العميق، حيث أن هناك فرق في الموقف من انجازات الحرب بين البيت الابيض وقادة الجيش الأمريكي في العراق وسوريا. هؤلاء القادة ينتقدون الادارة التي لا تعمل كفاية من اجل الضغط على داعش. الولايات المتحدة لا تزيد عدد الهجمات وهي مصممة على عدم ارسال الكوماندو لمهمات خاصة. وحتى الآن كانت عملية واحدة فقط أدت إلى قتل رجل الاموال لداعش واعتقال زوجته ومصادرة حواسيب فيها معلومات استخبارية مهمة.

المبادرة السعودية

فرص الاتفاق السياسي في سوريا لاعادة العجة إلى بيضة، ضعيفة جدا بسبب ثلاثة عوائق: الاول هو رفض الاسد الاعتزال. الثاني هو عدم وجود فرصة للتفاهم مع داعش والثالث هو الموقف الروسي.

حسب معلومات غربية، فانه جرت مؤخرا محاولات سرية لفحص امكانية التوصل إلى حل. وقد حدث هذا في لقاء بين الرئيس الروسي بوتين ومبعوث سعودي رفيع المستوى حيث اتهم بوتين السعوديين بأنهم يمنعون التوصل إلى اتفاق. السعوديون نفوا ذلك وقالوا إنهم مستعدون لأي عملية. هل توافقون على الالتقاء مع مبعوثي الاسد. سأل بوتين. السعوديون أجابوا: نعم، بشرط مشاركة ممثل عنك.

بعد فترة قصيرة كان لقاء سري في السعودية بين علي مملوك، رئيس الاستخبارات في نظام الاسد، وبين ممثلين سعوديين وميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي. اللقاء فشل حيث رفض مملوك بشدة كل اقتراح قدمه السعوديين، وقام السوريون بالتسريب عن اللقاء لصحيفة مقربة من سوريا في لبنان.

في الاستخبارات العسكرية يؤمنون أنه توجد صيغة تُمكن من وقف الحرب الاهلية التي تسببت بموت ربع مليون انسان ومئات آلاف الجرحى، ونصف مواطني سوريا اصبحوا لاجئين في الدول المجاورة ـ الاردن، لبنان وتركيا ـ أو لاجئين في وطنهم بدون منازل.

بسبب هذا يستعد الجيش الإسرائيلي للواقع الجديد في هضبة الجولان. في شمال شرق إسرائيل لا توجد دولة ولا يوجد جيش نظامي. ومنذ اندلاع الحرب الاهلية فقد الجيش السوري 93 بالمئة من مخزون صواريخ ارض ـ ارض التي كانت لديه، ولديه الآن بضع عشرات من الصواريخ القادرة على الوصول إلى إسرائيل.

وحسب الاستخبارات العسكرية والجيش فان التهديد المستقبلي على إسرائيل هو من التنظيمات الإرهابية التابعة لجبهة النصرة التي تسيطر على معظم الحدود مع إسرائيل، وداعش وحزب الله الذي يعمل قريبا من الحدود، ولا سيما في منطقة جبل الشيخ وقرية الخضر الدرزية. فمن هذه القرية خرج في السنة الماضية عدد من الإرهابيين الذين حاولوا تنفيذ العمليات على الحدود أو في إسرائيل. الضائقة الاقتصادية التي تمر على المنطقة تجعل من السهل تجنيد المتطوعين للتخريب مقابل الدولارات. هذه النشاطات يتعاون فيها حزب الله مع قوة القدس برئاسة الجنرال قاسم سليماني، أحد القادة الاقوياء والمؤثرين في إيران، والذي زار مؤخرا موسكو سرا. رغم أن العقوبات التي فرضتها الامم المتحدة تمنع لقاءات كهذه وتعتبر أن سليماني هو مرشح مستقبلي للرئاسة.

قوة القدس أقامت قيادة متقدمة في هضبة الجولان. وفي كانون الثاني 2015 نسبت لإسرائيل عملية قتل فيها جنرال إيراني وجهاد مغنية إبن عماد مغنية الذي قتل في 2008 في دمشق على يد الموساد، مع مساهمة متواضعة من الـ سي.آي.ايه. الجنرال الإيراني، مغنية وعدد من المرافقين كانوا في جولة تفقدية عندما هاجمتهم طائرة إسرائيلية وقتلتهم. وعين حزب الله مصطفى، إبن عماد ايضا، قائدا للمنطقة المقابلة لإسرائيل. كل شيء يبقى في العائلة.

تقديرات الاستخبارات العسكرية هي أن الحرب ليست على الابواب. فداعش وجبهة النصرة وحزب الله لا يريدون فتح جبهة اخرى. وهم بدون إسرائيل يغرقون في الدماء فيما كان يسمى ذات يوم دولة.

معاريف

حرره: 
س.ع