عكاشة "العبيط" واليهودي النبيل

لو كان الأمر بيدي، لتوجهت بدعوة للباحث الأميركي اليهودي المرموق، وعالمِ السياسة الشهير، نورمان غاري فينكلشتاينNorman Finkelstein ، لزيارة القاهرة، مع ترتيب لقاءات ومحاضرات ولقاءات له، مع منابر وشاشات، موصولة بالرأي العام المصري، لكي يشرح لمن استمعوا الى بقايا المخبولين طلاب التسول على موائد الصهيونية؛ ما يعلّمهم أن لا تراث مادياً، لليهود، في فلسطين عموماً، وفي القدس المحتلة على وجه الخصوص. فلا يكفي ـ ربما ـ أن نقول، بأن الحفريات المتواصلة في البلدة العتيقة، منذ أكثر من أربعة عقود، لم تعثر على شيء ولو في حجم إبريق، يتعلق باليهود في القدس، لأن الوجود اليهودي تاريخياً، كان موجة قصيرة عابرة، وبالتالي فإن تلك النجوم السداسية المزوّرة، المنقوشة على حجارة ألصقوها في مواضع من حائط البُراق؛ كانت بمثابة تعبير عن إفلاس آثاري مشهود ومثير للسخرية. ومن أمثلة تلك الحجارة، تلك التي شاهدهم الأطفال وهم يلصقونها الى اليسار من باب الساهرة، حين أزالوا حجارة أصلية، عاشت منذ أيام سليمان القانوني، باني سور البلدة القديمة، في القرن السادس عشر؛ ليستبدلوها بأخرى مدبّرة!

ليس في مقدور "العبيط" توفيق عكاشة، أن يزاود على فينكلشتاين. فالرجل ولد لأسرة يهودية ناجية من المحرقة، لكنه يرى أن إسرائيل، تستغل ذلك الحدث الفاجع، لكي تمّول نفسها وتبتز وتعربد وتجعله صناعة ومصدر تربّح. كان الرجل وما يزال موثوق الحجة والكفاءة لدى أهم الجامعات في الولايات المتحدة، وهو متخرج أصلاً من جامعة برينستون، وعمل في جامعة نيويورك. وقد أثنى على آرائه كبار المؤرخين، ومنهم اليهودي الأميركي راؤول هيبلبيرغ، وساعدوه على مواجهة هجوم المعتوهين من أمثال توفيق عكاشة، ممن ولدوا وترعرعوا يهوداً صهاينة متطرفين!

فينكلشتاين، اهتم أكثر، بالتاريخ الديموغرافي لبلادنا فلسطين. ونقل عن الآثاريين الثُقاة، حقائق الأمر في تاريخ الحضارة ونتائج البحوث والحفريات الآثارية العلمية المحايدة. وبنى موقفه السياسي، المؤيد لكفاح الشعب الفلسطيني، على حقائق علمية. وعندما جاهر بكل ما يؤمن به، هجم عليه شبيحة الصهيونية في أميركا، لكن النُخب العلمية تعاطفت معه، ووقفت الى جانبه رابطة اساتذة الجامعات، بل إن الطلبة أنفسهم، أضربوا عن الطعام معه، عندما واجه مجالس جامعات متأثرة باللوبي الصهيوني. هذا اليهودي النبيل، واحد من عشرات العلماء والمؤرخين والنشطاء السياسيين، الذين لا يسمح لهم شرفهم العلمي، ولا موقفهم الأخلاقي؛ أن ينطقوا بما ينطق به "العبيط" عكاشة اليوم، وكان ينطق به في كل يوم، المأجورون في صحافة الردح التي تناولت الشعب الفلسطيني بالجملة، في أواخر عهد السادات وطوال حقبة مبارك، حتى بات من يطمح الى رئاسة التحرير؛ يخرج الى الأبعد جنوناً والأكثر "عبطاً" وبذاءة، في تشويه تاريخ الشعب الفلسطيني!

ربما يحتاج المعتوهون، الى زمن أطول، لكي يتأكدوا بأن أيامهم ولّت الى غير رجعة، وأن فلسطين حضرت في ميدان التحرير، وغابت عن مسرح الجريمة في سيناء، ولم تكن هي التي كسرت جدران السجون أثناء الثورة، ولا هي التي أطلقت نيران القناصة، مثلما كان عكاشة وبعض أشكاله يرددون في اللحظات العسيرة! الفلسطيني الطبيعي، يوازي بين أمن مصر وبؤبؤ العين. ففي ذروة الهجوم عليه وفي أيام هدر كرامته عابراً من مصر، أو ماكثاً فيها، ظل حريصاً على تعيين الفارق بين سلطة فقدت رشدها، وشعب تربطه به وشائج القربى والمحبة، فلا يقبل مساساً بأمن المصريين. إن هذه رسالة، إن لم يفهمها "العبيط" ليس لنا إلا أن نستعين بيهودي نبيل، يعلمه معناها!