الاستبداد قطع رأس السياسة.. المجتمعات أنبتت ملايين الرؤوس

خلال العامين المنصرمين، اجتاح حراك سياسي مدهش العالم العربي، وإدهاشه يأتي من قدومه بعد عقود من العمل على استئصال وتجفيف السياسة في المجتمعات العربية. فقد عملت السلطات المستبدة على مدار العقود الخمسة المنصرمة من تاريخ المنطقة على إلغاء السياسة وتوحيد الحاكم بالدولة، من خلال "الشخصنة" التي أصابت دول المنطقة في عقدي السبعينيات والثمانيات، واصبحت الدول تحمل اسماء رؤساءها الذين استمروا في حكمها سنوات طويلة. ظهرت الدول العربية في العقدين المنصرمين، كأنها محصنة ضد موجات الاحتجاجات والديمقراطية التي اجتاحت العالم منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي والتي بدأت في أوروبا الشرقية، وانتقلت إلى أميركا اللاتينية، ووصلت إلى بلدان عديدة من شرق آسيا.

فقد ظهر الاستبداد العربي وكأنه انتصار على دروس التاريخ والسياسة واستطاع تكريس صيغة مؤبدة من حكم الطغيان دون اعتراضات جدية. صحيح أن مئات الآلاف من المعتقلين السياسيين اعترضوا على الاستبداد، وعرفوا أكثر المعتقلات قسوة في العالم، لكن في السنوات الأخيرة ظهر وكأن الكلمة الأخيرة في الدول العربية كانت للاستبداد، الذي تكرس خطابه، من خلال المديح الزائف لسياسات أوصلت الدول العربية، إلى ذيل قائمة دول العالم، ليس في الحقوق السياسية والحريات فحسب، بل وفي التعليم والتنمية والاقتصاد و... و... وفي ظل هذه الأوضاع المتردية كان على الشعوب أن تحتفل بانجازات الاستبداد الباهرة، التي ما بعدها انجازات، ففي ظل الاستبداد يتحول الفشل المدو إلى نجاح باهر.

وضع الاستبداد بصمته على كل شيء في العالم العربي، الاقتصاد والسياسة والتعليم والأرض والبشر، أممَّ السياسة واحتكرها، وباتت حصراً على أدوات الاستبداد وعلى كل من يدور في فلكه. فلا يوجد في العالم العربي سوى خطاب واحد يجيب على كل الأسئلة من خلال خطاب رث وفقير، مضمونه الوحيد هو مديح المستبد، وتجميل صورته وتعميمها بشكل زائف على كل شيء. كدنا نصدق أن لا خيار أمام مجتمعاتنا، سوى الاستبداد الذي تم تقديمه بأنه عنوان الاستقرار الذي يتبدد دون وجوده، بحيث يصبح الاستبداد ضرورة تاريخية، لأنه لا بديل عنه، والبديل هو الخراب بعينه. على هذا الأساس تم في العالم العربي اختراع علم آخر للسياسة، علم خاص بالاستبداد المنتصر على الشعب الذي عليه أن يحمد ويشكر المستبد على المنح والعطايا التي يمنحها لرعاياه، الذين كانوا سيعانون أشدّ المعاناة، دون وجود القائد الملهم العبقري الذي يجد الحلول السحرية للقضايا المستعصية، ولا أحد غيره يستطيع الوصول إلى عبقريته وحكمته وقدرته على حل المشاكل والوصول إلى استقرار تنعم به البلدان التي يحكمها المستبد، وتغرق البلدان الأخرى في فوضى لا حل لها.

غادرت السياسة مضامينها في الواقع العربي منذ عقود، والميدان العام الذي هو مكان ممارسة الشأن العام والسياسة على رأسه، تم احتكاره من قبل السلطات المستبدة، ويتم فكه وتركيبه وفق مشيئة المستبد، وحُرم الآخرون من الدخول إليه، بوصفهم غير مؤهلين لدخوله، لأنهم غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، وعليهم تقديم الشكر للمستبد الذي قبل أن يحكمهم ويأخذ بيدهم إلى قمم المجد التي لا يمكن أن يصلوها دونه. باحتكار الميدان العام وإحكام إغلاقه، ومعاقبة كل من يحاول الدخول إليه عن طريق آخر غير طريق المستبد، تم القضاء على السياسة وقطع رأسها نهائياً، هكذا ظهر الوضع بالنسبة لصانعي الاستبداد، أن انتصارهم نهائي، وليس هناك أي تحدٍ يواجه نمط حكمهم المستقر من أي كان، بعد إخراج السياسة من المجتمع، وإذعان الرعايا وقبولهم العيش خارج السياسة التي فوضوها إلى الحاكم مرة واحدة وإلى الأبد، وظهر الاستبداد كأنه يصنع تاريخ الدول العربية على هواه وعلى مدى زمني مفتوح على الأبد.

فجأة، يتبين أن التاريخ يحفر ويُصنع في مكان آخر، في تجاويف المجتمع الذي قرر المستبد أنه سلبه كل قدراته على الحركة، بمحاصرته بأدوات القمع والنهب الوحشيين. وأن من أُخرجوا من الميدان العام، عادوا لاحتلاله، لأنه ميدانهم، عادوا ليعلنوا عن وجودهم بأقوى الطرق، يخرجون من الخوف والعتمة ويعلنون أن الميدان، ميدانهم، وأن لهم الحق في الحصول على حقوقهم والتي أقلها أن يقرروا مصير بلدانهم بأنفسهم. وحتى يحتلوا الميدان العام من جديد استعادوا أسئلة السياسة وطرحوا سؤال المشروعية والأحقية بالحكم التي يدعيها الاستبداد. أعادوا السياسة إلى مكانها الطبيعي في المجتمع، تحركوا بوصفهم مواطنين لا رعايا، في ميدان عام، هو ميدانهم. ولأن الاستبداد لا يرى له شركاء في الميدان العام، واجه الدخول الجديد والكثيف عليه من قبل مواطنين كانوا رعايا حتى أيام قليلة منصرمة، بالحديد والنار والرصاص والمدافع والدبابات والطائرات، قابلته صدور عارية، ودماء سقت مستقبلها وحقها في أن تكون صانعة مستقبل وطنها. في صناعة التاريخ، هناك أيام وأسابيع تعادل عقود وحتى قرون.

على حين غرة، يكتشف البشر قوتهم وقدرتهم على صناعة حياتهم، يطالبون بحقوقهم الطبيعية، حقوقهم التي سلبت منهم لعقود طويلة، حقهم في أن يقرروا مستقبل بلدانهم. لذلك يذهبون إلى أسئلة السياسة مباشرة دون تلعثم، يسألون الأسئلة الصحيحة ويدافعون عن حقوقهم الصحيحة. لذلك، السياسة التي اختفت في تجاويف المجتمع تعود إلى الظهور مرة واحدة وبقوة، وتطرق أبواب الجميع، لنجد قطاعات متزايدة تدخل السياسة والميدان العام لتصنع تاريخها اليوم والآن، قطاعات ما كنا نتصور في يوم أن تكون لها علاقة بالسياسة، تسأل الأسئلة الأكثر بلاغة ومشروعية، في أن يكون الحاكم موظف عند الشعب، لا الشعب رعايا عند الحاكم. في عودة الشعب إلى الميدان العام، تطرق أسئلة السياسة كل باب عربي، ويدخل النقاش السياسي كل عائلة، سواء تلك التي عاشت وتعيش الثورات أو تلك التي تنتظر.

تدل عودة السياسة إلى الميدان العام في البلدان العربية على أن هذه الدول لم يعد من الممكن حكمها بالطريقة السابقة، والسياسة التي تم قطع رأسها أنبتت مكان الرأس في لحظة الانتفاض المجتمعي ملايين الرؤوس التي بات من المستحيل قطعها كما جرى قبل عقود. اليوم، يضع العالم العربي حداً فاصلاً ونهائياً بين زمنين. فالمواطن الذي نزل إلى الميدان العام وواجه الاستبداد والرصاص بصدره العاري، ليس هو ذلك المواطن الذي كان قبل نزوله ليعلن وجوده بقوة في الميدان العام وفي السياسة تحديداً، تلك الممارسة التي حرمت عليه مع انها حقه الطبيعي.