طموح داعش بين المسموح والمقدور!

بقلم: 

منذ أن ظهر داعش بشراسته وجرائمه المتتالية، وأخباره لا تفارق الصحف وشاشات التلفزة في كافة أرجاء الأرض. ولأن داعش لا يمت لدين الرحمة بصلة، ولكون جرائمه المشينة تعدت حدود تحمل العقل، دأبت التحليلات في المنابر الإعلامية العربية تحديداً بتناول أخبار هذا التنظيم بشيء من الإنفعالية التي تبعد كثيراً عن الموضوعية، ودون الخوض في تفاصيل هامة مثل بنيته وتشكيلاته وغيرها من التفاصيل التي قد تكون أكثر أهمية للقارئ ولصانع القرار على حد سواء، وهي أمور تحدد ملامح هذا الكيان، وتكشف عن مدى تعقيد تركيبته التي إستطاع من تكوينها في وقت قياسي مثير للكثير من الشك.

تاريخ الحركات الإسلامية مترسخ في هذه المنطقة، ولكنه بدأ في أخذ شكل سياسي واضح مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، أي بعد خمسة أعوام من سقوط آخر دولة إسلامية: الإمبراطورية العثمانية. فشل الجماعات الإسلامية في مواجهة التحديات التي واجهت الأمة، وعلى رأسها حركة التغريب في المجتمعات العربية والهزائم المتتالية أدى لظهور أعداد متزايدة من الحركات ذات التوجهات الإسلامية. ومع الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، تصاعدت وتيرة نشأة هذه الحركات بشكل غير مسبوق، وكانت حركة التوحيد والجهاد أحد أهم تلك الحركات التي صعدت إبان تلك الحقبة.

في عام 2004، أقسمت حركة التوحيد والجهاد- تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي- الولاء للقاعدة وأصبحت منذ ذلك الحين تعرف بإسم القاعدة في العراق، إلا أنه وبعد مقتل الزرقاوي عام 2006 أصبح التنظيم يعرف بإسم الدولة الإسلامية في العراق- ومن ثم أصبحت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

وبعيداً عن أي نسق تاريخي، أضحى داعش أهم تنظيم في المنطقة، بعد أن إخترق العديد من الدول، وتسلل عبر حدود دول أخرى ليسجل حضور في أكثر من عشر دول حتى الآن. وكان إحتلال الموصل في صيف 2014 الحدث الأهم في تاريخ هذا التنظيم، حيث تم الإعلان عن الخلافة خاصته عقب هذا النصر، بل ونجح في التحول من تنظيم إلى كيان يشبه الدولة.

ومع مرور ما يقارب من عامين على إعلان ما يسمى خلافته الإسلامية، وعلى الرغم من العمليات الجوية الدولية لأكثر من ستين دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهجمات القوات الروسية مؤخراً، إضافة للمعارك الضارية التي يخوضها داعش ضد النظام السوري والجيش العراقي والعشائر السنية في العراق، وقوات الحشد الشعبي، وقوات البيشمركة، ومقاتلي النصرة، وحزب الله ومقاتلي الحرس الثوري الإيراني وغيرهم من المرتزقة، بدا وكأن التنظيم يرسخ وجوده أكثر وأكثر في شيء يخالف أحكام المنطق كثيراً. 

أصبح التنظيم يسيطر على مايقارب نصف مساحة الأراضي السورية وثلث مساحة العراق، ويتشكل من نظام غير مركزي مقسم إلى 16 محافظة، كل واحدة مقسمة لتقسيمات إدارية (مقاطعات) أصغر يحكمها أمير (أو والي)، الذي يتخذ قرارات تخص هذا المقاطعة وينظم عمل الأمراء الأقل مرتبة في المقاطعات الأصغر. أما هذه المقاطعات، فيتولى الأمراء فيها أمور الحكم ويديروا التجمعات السكانية إضافة لحماية وإدارة المصدر الأهم لتنظيم داعش: حقول النفط.

المصادر الغربية التي إستطاعت الدخول إلى مناطق نفوذ داعش تصور الحياة هناك بشكل مغاير لما يعلمه أكثرنا. فتقول مصادر نيويورك تايمز الأمريكية بأن تنظيم الدولة تفوق على النظامين العراقي والسوري في إدارة المناطق التي يحكمها، فبعد سنوات من الحروب الأهلية والفوضى وعدم الإستقرار، إستطاع أن يفرض تنظيم الدولة الأمن في المدن السورية والعراقية، بل أن الطرقات باتت أكثر نظاماً ونظافة، وأصبحت الأعمال والمتاجر تعمل بانتظام، مؤكدين أنه "إن إلتزمت بتعليماتهم فإنك تعيش بسلام".

مصادر غربية أخرى جاءت بذات النتيجة، بل وأكدت بأن تنظيم الدول يدير المدن التي يحكمها كأي دولة أخرى، فيصدر بطاقات هوية، ورخص قيادة سيارات، وتصاريح عمل، بل وأكثر من ذلك لدرجة أن التنظيم يقوم بتطوير البنى التحتية ويحارب الفساد.
ولداعش برلمان خاص به أو مجلس شورى، ويبقى دوره إستشاري محدود في ظل الولاء الكبير الذي يبديه جميع أعضاء هذا المجلس لخليفتهم: أبو بكر البغدادي، حيث تبقى الكلمة الأخيرة والقرار النهائي له. عملت داعش أيضاً على تنظيم المناطق التي تحكمها عبر مؤسسات إدارية مختلفة- تشبه إلى حد كبير الوزارات، وأهمها الإعلام، والعدل والتعليم والأمن.

فيما يخص الأمن، فيتم إدارته بطريقة تختلف عن باقي المؤسسات، حيث تعهد المسؤولية فقط لمن أظهر ولاءاً كاملاً وتاماً للتنظيم، ولا يتم قبول المتطوعين أو المجندين الجدد الذين لم يتم إختبار ولائهم للتنظيم في هذا الجسم الإداري الهام.

تقديرات بعض المصادر الأمنية الأمريكية تقول بأن عدد مقاتلي داعش كان ما بين 9000 إلى 18000 مقاتل قبل العمليات الجوية الدولية، وذات المصادر رجحت بأن عدد مقاتلي التنظيم هو ذات العدد بعد العمليات الجوية الأمريكية!!! وكانت الإستخبارات الأمريكية قالت قبل عام بأن عدد مقاتلي داعش يتراوح ما بين 20000 إلى 31500، أما رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان فقدر أن عدد مقاتلي داعش في سوريا وحدها يتعدى 50000 مقاتل، فيما رأى رئيس هيئة الأركان العامة الروسية أن عدد مقاتلي التنظيم 70000. وتبقى هذه الأرقام متواضعة أمام التقديرات الكردية التي ترجح أن يكون عدد مقاتلي داعش 200000.

وبعيداً عن الأرقام، إعتمد داعش في معاركه وعملياته طريقة وحشية لدرجة أن تنظيم القاعدة نفسه إنتقده فيها، وتتضمن هذه الطريقة تدمير الممتلكات، التعذيب والقتل والإعدام بأبشع الصور، بهدف تخويف وترهيب أعدائهم. وبالفعل، وفقاً لشهادة البعض، فإن معركة إقتحام الموصل لم تكن لتنتهي بهذه السرعة لولا الرعب الذي دب في قلوب الحامية العراقية بعد أن تعرضوا لعدد من الهجمات الإنتحارية. وفيما يخص الأنشطة الخارجية وتشمل العمليات الإرهابية من قتل أو تفجير في دول غربية أو عربية، فيقوم التنظيم بإستغلالها وتوظيفها بشكل دعائي كأحد إنجازاته  لترغيب المتعاطفين مع أيديولجيته، وهو الأمر الذي ينقلنا للجسم الإداري الثاني الذي يولي له تنظيم الدولة أهمية كبرى وهو الإعلام.

فقد أثبت التنظيم عبر عمره القصير مدى قوته الإعلامية، وتطوره ومواكبته لأحدث التكنولجيا والعلم في هذا المضمار. فعلى سبيل المثال، إستطاع التنظيم من جذب الدعم والتأييد لأيديولجيته وفكره، وإستقطاب مقاتلين من أكثر من 80 دولة، بل وتشكيل خلايا في العديد من العواصم عبر وسائل التواصل المجتمعي. ووفقاً للتقديرات، فإن التنظيم يتحكم في أكثر من 90 ألف حساب تويتر (للتغريدات)، أي أنه شكل جيش إعلامي إفتراضي يعكس قدرة إعلامية هائلة.

طموح تنظيم الدولة كبير وقدرته على الإدارة والتنظيم عالية، فتصل مخالبه بقاع بعيدة لتشمل جماعات بايعته في نيجريا جنوباً وأفغانستان شرقاً، ووفقاً لرأي الخبراء فإن إستراتيجية هذا التنظيم تبنى على قاعدة البقاء ثم التوسع (survive then expand)، فبعد أن إستطاع التنظيم النجاح في مرحلة البقاء وترتيب أوضاع البقاع التي يسيطر عليها، بدأ بتطبيق المرحلة الثانية بالتوسع وزيادة مناطق نفوذه.

ففي كتاب أنردو هوسكين بعنوان: إمبراطورية الخوف- في داخل الدولة الإسلامية، يكشف الكاتب هوسكين عن مخطط داعش التوسعي في الخمس سنوات المقبلة، حيث يطرح التنظيم خريطته للنظام العالمي الجديد وتضم دولته اسبانيا واليونان وبقية دول البلقان والهند والنصف العلوي من أفريقيا.

يبدو جلياً أنه وفي الوقت الذي يتحرك هذا التنظيم بشكل مدروس ومخطط، تفتقد القوى الكبرى والإقليمية رؤية واضحة حيال التعامل مع هذا الأمر، فالولايات المتحدة الأمريكية وعلى لسان رئيسها أعلنت صراحة في مؤتمر صحفي في أغسطس 2014 أن الولايات المتحدة ليس لديها إستراتيجية حيال داعش، وهو تصريح صادق للغاية أكده القرار الأمريكي الأخير بإرسال 50 نفراً من القوات الخاصة لتدريب المعارضة "المعتدلة".

أما الدخول الروسي الأخير في المنطقة فأهدافه باتت واضحة وتتعدى كثيراً أسبابه المعلنة، فالدخول بعدد غير كبير من الجنود لن يؤدي بطبيعة الحال إلى إنهاء تنظيم داعش، حيث أن جميع المعدات والتقنيات والعتاد الذي نُقل من روسيا إلى سوريا لا يعدو عن كونه وسائل قتالية جوية ودفاعات أرضية لن تنهي التنظيم الذي لا يمتلك في الأصل طائرات أو مواقع عسكرية كبرى يمكن إستهدافها بهذه التقنيات.

القوى الإقليمية من جانبها مشغولة في قضاياها الداخلية- الخارجية، الحوثيين جنوباً وحزب العمال الكردستاني شمالاً وغيرها من القضايا والتطورات كبلت صانع القرار الإقليمي من البحث عن قرار جماعي لإنهاء داعش. الكثير من التكهنات رجحت كفة دور أجنبي في نشآة ونجاح هذا التنظيم، وقد تكون الحقيقة خليط بين الأمرين: قرار أجنبي بإستغلال حالة عدم الإستقرار والفوضى لخلق هذا الجسم من أجل تحقيق غايات بعينها.

وعلى الرغم من كآبة جميع هذه المعطيات، إلا أنني أرى بأن الظروف التي أسهمت في نشأة وإستمرار هذا التنظيم لن تدوم طويلاً. فإن كان عدم الإستقرار في المنطقة العربية سبباً حيقيقياً لنشأة داعش، فملامح تغير جذري بدأت تشق طريقها إلى المنطقة وتبشر بإستقرار قريب، أما وإن كان سبب نشأة داعش هو قرار أجنبي، فالتاريخ الحديث يقول أنه وبإنقضاء الغاية منه، سيقضى عليه.

هذا التنظيم ما زال يحصد يوماً بعد يوم معاداة القريب والبعيد، وأضحى إرهابه لا يفرق ولا يميز، فيضرب في كل مكان، ويحصد ضحاياه من كافة الأعراق والألوان، أما والجراح باتت غائرة، فعمقها سيؤدي حتماً إلى قرار جماعي، للذهاب نحو تحرك حقيقي، ينهي وجود كيان، أساء قبل كل شيء إلى قيمة الإنسان.